محمد برو – الناس نيوز ::
اشتهر الفيلسوف البولندي زيجمونت باومان “1925 – 2017” بفلسفة السيولة، التي وجه عبرها نقده الحاد للحداثة الصلبة، التي كانت سمة القرن العشرين، وقدم للعالم قراءته التي فصلها عبر كتابه الحداثة السائلة، ثم اتبعها بسبعة كتب (الثقافة والحب والمراقبة والخوف والشر والحياة والأزمنة السائلة).
صاغ عالم الاجتماع والفيلسوف “زيجمونت باومان مفهوم الحداثة السائلة، كاستعارة لوصف حالة التنقل المستمر والتغيير الذي يراه في العلاقات والهويات، والاقتصاد العالمي داخل المجتمع المعاصر، فعلى النقيض من الحداثة “الصلبة” للقرن العشرين، تتميز الحداثة السائلة بالسيولة والتقلب وعدم اليقين.
إحدى السمات الأكثر لفتاً للانتباه في حداثة السيولة هي الطريقة التي أصبح فيها الزمان والمكان أكثر مرونة. في العصر الحديث الراسخ، كان الزمان والمكان ثابتاً نسبياً.
عاش الناس وعملوا في مجتمعات مستقرة نسبياً، وكانت هوياتهم متجذرة في هذه المجتمعات. بينما في زمن الحداثة السائلة، أصبح الزمان والمكان متنقلين بشكل متزايد. يتنقل الناس بشكل متكرر، جسدياً وفعلياً. هذا التنقل يجعل من الصعب تكوين روابط ومرفقات دائمة.
كما أدى انسياب الزمان والمكان إلى تراجع المصادر التقليدية للهوية. في الوقت الذي كانت هويات الناس متجذرة في طبقتهم الاجتماعية، أو دينهم أو جنسيتهم، فإنها أضحت هذه المصادر التقليدية للهوية في زمن الحداثة السائلة أقل استقراراً. من المرجح أن يختبر الناس إحساساً بانعدام الجذور وعدم اليقين بشأن هويتهم.
كذلك أصبحت الفردانية والنزعة الاستهلاكية طريقة للحياة السائدة، فهنا يتم قصف الناس باستمرار برسائل حول أحدث المنتجات والخدمات، ويتم تشجيعهم على شراء أشياء جديدة من أجل مواكبة الجيران، ومن المؤكد أن تؤدي هذه النزعة الاستهلاكية إلى الشعور بالقلق وعدم الأمان، حيث يسعى الناس باستمرار للحصول على المزيد والمزيد من الممتلكات.
كل هذا أنتج مناخاً سائداً تتجلى فيه الثقة الغائبة، في حين كان الناس أكثر ثقة ببعضهم البعض والإيمان بمؤسسات مثل الحكومة ووسائل الإعلام، واليوم أصبحوا في زمن الحداثة السائلة أكثر تشككاً في الآخرين وفي المؤسسات، هذا التراجع في الثقة جعل من بناء العلاقات المتينة وخلق شعور بالانتماء للمجتمع أمراً صعب الحدوث.
انتقد باومان رغم يهوديته دولة العنصرية “إسرائيل”، مؤكداً أنها لم تكن أبداً مهتمة بالسلام، بل كانت تعمد تكراراً لاستخدام الهولوكوست كعلة مخادعة لإضفاء الشرعية، على سلوكها الموغلة بالتوحش . (وفق رأيه ) .
يبدأ باومان هذه اليوميات الفكرية، التي يصر على أنها ليست يوميات في عام 2010 وينهيها عام 2011، ويأخذك عبر هذه التدوينات غير المتسلسلة والتي ربما لا تجد بينها رابطاً واضحاً سوى تعرية الحداثة الصلبة، والتأكيد على مفتاح الشخصية في فلسفته “السيولة” والتي لن تنجو من الإقرار بها لكثرت ما يسوق لك من الوقائع، التي تؤكد بمجملها على سيولة هذا العالم الذي نعيشه وربما تفاهته.
لشد ما تذكرني هذه التدوينات التي ضمها الكتاب، بالتوقيعات اليومية التي كان يدونها الرئيس البوسني الأسبق “علي عزت بيكوفيتش” في سني سجنه الست عشرة “1983- 199” والتي جمعها في كتابه “هروبي إلى الحرية”، ومن الجدير بالتذكر أن باومان عرف تجربة السجن وكتب عنها، وربما ساهمت فسحة التأمل المديدة التي يحظى بها المسجون، في بناء أو بلورة بعض رؤاه.
تحت عنوان “جماعات الغجر والديمقراطية” يفصل باومان إحدى مشكلات العصر الحديث، مشكلة المهاجرين، ومعلوم أن باومان عاش مهاجراً ومنفياً من بلاده، فقد هرب من بلده بولندا إلى الاتحاد السوفييتي، إثر الغزو النازي عام “1939”، وهو في هذا الفصل يتعرض للمشكلة العميقة التي يستثمر بها السياسيون المحليون أزمة اللاجئين الوافدين لستر فشلهم السياسي، صحيح أن باومان يناقش هنا مشكلة الغجر كمجموعة مهاجرة وغير مستقرة كنموذج، إلا أنه يغوص عميقاً في مناقشة أزمة المجتمعات المعاصرة عموماً، مع الوافدين الجدد الذين يتم تصنيفهم كغرباء ومجهولين، وموطن للشر المحتمل، “إن الغرباء علامة خطر، لأنه من المحال معرفة ما سيفعلونه”.
هذه اليوميات التي يصر “زيجمونت باومن” على تسميتها “ليست يوميات” تذكرنا بالإعلان الذكي الذي يقول “لا تقرأ هذا الإعلان”، فكأنه يدفعك بكلتا يديه للإصرار على قراءتها، هذه اليوميات يبدأها باومن بتاريخ 3 سبتمبر/أيلول 2010 وينهيها بتاريخ 1 مارس/آذار 2011، يمكن القول عنها إنها جردة حساب لوقائع نصف عام من الأحداث والمراجعات والقراءات ورصد التحولات المفرطة في السرعة والتي تمنح فيلسوفا مثل باومن القدرة على تخيل مصير البشرية التي تزحف مغمضة العينين أو مضللة، غير مدركة إلى أي كارثة سينتهي بها المصير .
ثم يستعرض من خلالها مواقف وأفكار وسياسات وحروب، لكنه يختم الكتاب بحس إيجابي ربما لا يتسق مع جملة الوقائع والمشاهدات التي استعرضها بحسه النقدي، إنما ليمنح القارئ دفقة من الأمل تنحو به للمضي قدما وعدم الاستسلام، فينقل مقولة “هربرت جورج ويلز” في روايته “شكل الأشياء القادمة”، (ها قد حان اليوم وحانت الساعة لبزوغ شمس الإنسانية الموحد، لقد انتهى زمن الاستشهاد والاستعباد، ولم يبق على وجه الأرض أحد إلا وينعم بآفاق تحقيق الذات، كما ينعم بقدر وافر من الصحة والرفاهة والحرية، فليس بيننا فقراء ولا أراذل على أساس الأصل والنسب، وليس هناك من يزج بهم في السجون عبثاً).