روزا ياسين حسن – الناس نيوز :
خلال عقد التسعينيات كان “بوعلي ياسين”، أبي، يملك مكتبة في مدينتي اللاذقية، وفي مستودعها السرّي طابعة مهملة تبدو من مخلفات الحرب العالمية الأولى. امتلاك طابعة وقتذاك كان أشبه بامتلاك مفاعل نووي، وبالفعل فقد كانت تلك الطابعة أشبه بثورة صغيرة مبكرة في مدينة وادعة كاللاذقية، يمشّطها رجال الأمن ومافيات الشبيحة الآخذة بالتعملق، فلم يكن هناك مقالة ممنوعة أو كتاب ممنوع في سوريا، على حدّ علمي، لم يُطبع “بالأسود”، أي بالسر، ويوزع في ومن تلك المكتبة .
وقالت الكاتبة روزا ياسين حسن في صفحتها على الفيس بوك إنه بالإضافة إلى صور الكثير من “الرموز” الممنوعة آنذاك! مسؤوليتي آنذاك كانت طباعة جزء لا بأس به من تلك الكتب، التي كانت تخرج بالأسود والأبيض، فيما كان عمي مسؤولاً عن تلوين تلك الكتب برسم أغلفة، هي عبارة عن قصاصات ورق مقوى، لا تشبه الأغلفة الأصلية لكنها لا تقلّ جمالاً! فيما كان “أبي” يقوم بطبع المقالات من المجلات والجرائد الممنوعة بعد أن يجلبها الأصدقاء، الموثوقون، تهريباً من بيروت.
لكم أن تتخيّلوا شعور شابة صغيرة تعتقد بأنها بطباعة الكتب الممنوعة ستغيّر العالم! ما أذكره جيداً أن جزءاً كبيراً من تلك الكتب الممنوعة والمطبوعة سراً كانت من إصدارات “دار الريس”، كتب التراث الإيروتيكي مثلاً كـ”تحفة العروس ونزهة النفوس”، و”الروض العاطر في نزهة الخاطر”، وكتب في نقد الخطاب الديني كـ “ذهنية التحريم” لصادق جلال العظم، و”إسلام في الأسر” لصادق النيهوم وغيرها الكثير، كما أن معظم المقالات المهرّبة كانت من مجلة الناقد، التي تصدرها “دار الريس” كذلك، والتي انتظرتها بلهفة عاشقة في كل شهر، كما انتظرها الكثيرون غيري، نافذة ملونة في رمادية أيامنا. وكم كان حزني حارقاً حين عرفت بأن مجلة “الناقد” ستتوقف عن الصدور، إحساسي كان بأن نفساً آخر سينقطع من سجننا الكبير.
لاحقاً وبعد سنوات طويلة، لم تقبل أي دار نشر أن تطبع روايتي “حراس الهواء”، فقد كان نشر رواية كهذه في العام 2008 أشبه بجريمة لا تغتفر، وحدها “دار الريس” تلقفت الرواية ونشرتها بحماس، ثم نشرت الرواية التي بعدها “بروفا” والتي لا تقلّ “خطورة”، حسب وجهة نظر النظام في سوريا، عن سابقتها! ولكم أن تتخيّلوا كذلك شعور كاتبة “بخبرة متواضعة” آنذاك مثلي، كي لا أقول كاتبة مغمورة، حين يتصل بها صوت نسائي بلكنة لبنانية ليخبرها بأن الأستاذ “رياض” يريد مكالمتها.
في ذاك اليوم قال لي ذاك الصوت اللطيف والمرح، والذي كان صوت “الأستاذ رياض”: “لا تقلقي روايتك ستنشر.. أنت شجاعة، ضلّي هيك!”. لن أنسى تلك اللحظة ما حييت! ما أردت قوله لك يا عزيزي ومعلمي “رياض نجيب الريس”، لقد أثّرت في أجيال كاملة بشجاعة قلمك وحرية فكرك. ما خاف منه “آخرون” اعتبرته أنت موقفاً ملزماً. أرى اليوم بأن جزءاً مهماً من ثقافتي النقدية، وثقافة الكثيرين غيري، ساهمت أنت، عبر مشروعك الثقافي، بتقويتها وبلورتها. انظر إذاً، من مثلك لا يمكن أن يموت أبداً!