د . غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
فاجأت المُخرجة الفرنسية ذات الأصول الجزائرية الفلسطينية “لينا سوالم” متابعيها بوصول وثائقيها الجديد “باي باي طبرية”، إلى قوائم الأوسكار لسنة 2024 مُمثِّلَةً لدولة فلسطين، بعد أن صنع “جزائرهم” الذي أصدرته من سنتين تقريبًا الحدَثَ داخل فرنسا وخارجها.
ترتحل “سوالم” في طفولتها الأولى، هذه المرّة أيضًا، تحاول أن تستعيد وتُعيد تركيب “بازل” حياةٍ معقّدة قِوامها الهجرة، متسائلةً عمّا يمكن أن تفعله في حياة البشر، وتغامر بحثًا عن الأماكن التي تعمّر الذكريات. تنطلق من قصّة جدّتها التي كانت تدرس بمدرسة المعلمات زمن النكبة، قبل أن تشتغل معلمةً، وتعطي الحياة لأزيد من عشرةٍ من الأبناء. توظّف “لينا” أرشيفها العائلي الخاصّ؛ صورٌ من الأرشيف المُتاح حول التهجير القسري لتبني قصّةً فلسطينية أخرى، ورِثتها عن أمّها الممثلة الفلسطينية “ريهام عباس”. توظّف أفراد عائلتها الواحد تلو الآخر، ليُعيدوا تمثيل مشاهد من حياتهم، صنعت أهمّ محطّاتهم، وتخرج في النهاية بفيلم وثائقي مؤثّر، جاعلةً من صمت الغائبين قسريًّا بسبب التهجير صوتًا خلفيًا قويًا يزداد حضوره كلما توارى.
الذكرى الحميمة الجماعية:
يتفاجأ مَنْ يكتشف “باي باي طبرية”، عن كمّ التشابه بين الوثائقي الجديد وأولى محاولات المُخرجة الشابة “جزائرهم”، التي حاولت أن تؤرّخ لعائلة أبيها المُمثل الجزائري الفرنسي “زين الدين سوالم”، إذ يجد فيها الجدّ والجدّة نفسيهما مجبرين عن الانفصال بعد أزيد من سبعة عقودٍ من الحياة المشتركة، وأن تحقّق في ماضي عائلي، هو أيضًا نتاج هجرة قاسية ومؤثّرة، وصامتة خصوصًا، تحاول المُخرجة الشابة افتكاك البعض من مفاتيحها.
تندر عروض “سوالم” التي تنتهي دون أن تفتك تصفيقات الحاضرين في قاعات السينما الفرنسية خصوصًا، ودموع البعض أيضًا، إذ تنجح الشابة وهي ترتحل في ماضي عائلتها اقتناص ما يجعل من الشخصي والحميم جدّا، تجربةً مشتركة بين أبناء جيلها وغيره من الأجيال، في بلد غدَتْ الهجرة أكثر الموضوعات إثارةً للنقاش.
وثائقي في عالم متغير:
بالمقابل أيضًا يبدو أن سوالم تعيش أكثر فتراتها ازدهارًا، ففيلماها يبدوان وقد صُنعا على مقاس المرحلة، فمن جهة، لا تزال حرب غزة مسيطرة على الأذهان والنقاشات، خصوصًا في فرنسا التي كانت مجموعة من المحامين سبّاقة في محاولة مقاضاة إسرائيل عن جرائمها في غزة، ومن جهة ثانية، لا تبدو الزوبعة التي يثيرها قانون الهجرة الجديد قابلةً للتهدئة على الأقلّ خلال الفترة القادمة، وهو يخوض معارك قانونية بين حجب بعض المواد، وتمرير أخرى، ويفرض انقسامًا إضافيًا على ساحةٍ سياسية فرنسية هشّة، ينجح تهديد اليمين المتطرّف المتغوّل منذ سنوات في فرض اضطراب إضافي، ويضع باقي الأطياف ومؤسسات الدولة الفرنسية أمام رهاناتٍ حقيقية، في تقاسم شعبيته من جهة، وفي صدّ الأسوأ ربما، خصوصًا وأن صاحب مشروع القانون، وزير الداخلية “جيرالد دارمانان” (ذو الأصول الجزائرية أيضًا)، يبدو من أوائل المُعلن عن ترشّحهم للرئاسيات الفرنسية القادمة، وقد حظِي منذ أسابيع دعم الرئيس الفرنسي السابق “نيكولا ساركوزي”، (الذي شغل منصب وزير داخلية أيضًا بداية الألفينات، وشرّع لقانونٍ اُعتبر وقتها من أكثر القوانين إثارةً للجدل، زاد من شعبيته وقاده إلى الإليزيه لسنواتٍ بعدها). كل ما سبق يزيد من أهمية ومحورية مؤلفات الشابة “سوالم”، التي لا تكتفي بوضعها كنتاج للهجرة على الطريقة الفرنسية، بل تناقش موضوع الهجرة لا كمادة فيلمية فقط، ولكن أيضًا كممارسة تصرّح بها عن حقّها في التواجد والتميّز ضمن الفضاء العام، والتحليق بعيدًا عن الخطاب المفروض.
أ/ غادة بوشحيط
كاتبة ومترجمة من الجزائر.