ثائر الناشف – الناس نيوز :
أمسى الموت طقساً يومياً من طقوس السوريين، ولعل ذلك بفعل الاعتياد الدائم الذي سببته الحرب على مدار السنوات الماضية، فلا يكاد يمضي يوم دون أن يودع السوريون أحباءهم الذين غيّبهم الموت بغتة، إلا أن الموت -ومهما تعددت أسبابه- يبقى كأساً مُرّاً لا يتمناه الإنسان العاطفي العاقل لأي إنسان آخر.
لكن ذكرى الموت -كما هو ظاهرٌ للعيان- لا تدوم طويلاً في ذاكرة السوريين، ولا تلامس حدود العقل الجمعي، فوجودها -الذكرى- ظلّ مُقتصراً حتى الآن على الحالات الفردية، ولذا فإن تسنّى لها أن تشيع بين صفوف السوريين؛ فإنها لا تفتأ تشيع بطريقة أحادية، رغم أن رحيل مئات الآلاف كافٍ لجعلها تغدو ظاهرةً جَمعيّةً يمكن أن تنتقل تدريجياً -وبمرور الزمن- من جيل لآخر، إلا أن اقتصارها على الجانب الفردي ليس مردّه إلى واقع الهويّة السورية، بل لأن السوريين المعاصرين لم يسبق لهم أن ورثوا تلك الذكرى عن أسلافهم.
فالسوريون لا يعرفون من الموت شيئاً سوى المآتم، وبعضٍ من ذكرى فردية مشوبة بالحزن سرعان ما تطوى صفحتها في اللاوعي، كما أنهم لم يعتادوا أن ينشّطوا ذاكرتهم الجَمعيّة في مواسم سنوية عبر استذكار مَنْ فقدوا من رموزهم الثقافية والأدبية والوطنية مثلما هو الحال في العديد من البلدان.
وبخلاف حالات التخليد الدائمة لذكرى الموت المُرّة والمؤلمة في ذاكرة الشعوب ووجدانها، كذكرى الهولوكست، وسربرنيتسا، والأنزاك، وحلبجة، وغيرها الكثير من الأحداث المؤسفة التي راح ضحيتها آلاف الناس الأبرياء؛ فإن الموت ليس مجرد طقس جنائزي لا يلبث أن يتلاشى أثره من ذاكرة الأحياء بانتهاء الطقوس المصاحبة له، والتي عادة ما تنتهي بتشييع الميت إلى مثواه الأخير. بل هو جزءٌ من هوية تلك الشعوب، فالموت -مثلاً- ركن أساسي من أركان الحضارة المصرية القديمة، والمصريون المعاصرون ورثوا عن أجدادهم ذلك الموروث التاريخي الذي بات جزءاً ثقافياً يتحكم في شؤون حياتهم، ويرتب علاقتهم مع الآخر، فيما ينسحب الأمر عينه لدى شريحة واسعة من العراقيين الذين لا يستطيعون مبارحة مواسمهم الجنائزية بعدما غدت جزءاً حيّاً من هويتهم الثقافية.
طالما أن أذهان السوريين لم تستسغ بعد فكرة تحوّل ذكرى الموت إلى ثقافة جَمعيّة بكائية؛ فإن ذكرى الموت تبقى بالنسبة للعديد منهم مجرد مسألة عاطفية ووجدانية عادة ما ينتهي تأثيرها في النفوس بغياب الفقيد، ربما لأن ذاكرة السوريين باتت اليوم مُثقلة بالهموم والمصائب، وتكاد لا تتسع أبداً لاستيعاب آلام جديدة إذا ما قُدِّرت وقيست بمشقة احتمال الموت.
أمّا السؤال المُلحّ الذي يحضر في الذهن؛ هل إسقاط ذكرى الموت من ذاكرة السوريين أمر سليم لا ضرر فيه على حاضر الأجيال أو على مستقبلها؟ أم أنه يدلُّ دلالة قاطعة على حالة التبلد العاطفي، واللامبالاة الوجدانية التي أصابت فئة كبيرة منهم بسبب الانعزالية التامة عن أجواء الحرب، والانطواء على الذات؟ وهو ما جعل موقفهم النفسي من ضحايا الحرب يبدو شديد الضبابية، كضبابية المواقف السياسية المحيطة بسورية.
ليس مطلوباً الآن أن يُغرق السوريون ذواتهم في قيعان الحزن، ولا أن يُحوّلوا طقوس الموت اليومية إلى مآتم دائمة؛ بل لا بد لنا جميعاً من إزاحة الأفكار السلبية التي راحت تستولي على جُلّ اهتمامنا ومحور تفكيرنا الممسوس بالكآبة حيناً، وعدم الاكتراث حيناً آخر، بحيث لا نفسح المجال أمام تلك الأفكار لكي تدفعنا بشدة إلى الاعتقاد أن شبح الموت لم يعد يستهدف أحداً في العالم سوى السوريين أنفسهم. فالموت كما الحياة، سمة عامة للكائنات كلها، فلكما قضى سوري نحبه إن بحادثة مُفجعة أو موت طبيعي، فسرعان ما يجري تصوير رحيله بطريقة رمزية وعاطفية، فتبدو في مخيلة العاطفيين كما لو أن الموت ما زال يستهدف السوريين بصورة مُتعمّدة، وكأنه لا يريد أن يتركهم وشأنهم قبل أن يقضي على آخر ما تبقى منهم في عموم البلاد.
فالموت في زمن الحروب ليس شبحاً مُجسّداً لمُطاردة الناس المحاصرين، إنه لا يقتفي آثار السوريين القابعين في السجون والزنازين، ولا أولئك الجائلين في الغابات والبحار بحثاً عن أوطان جديدة؛ لكن حلوله المستمر في يوميات السوريين، والذي لا ينقطع عن أحاديثهم البتة، جعلهم يعتقدون أن الموت لا يحل الآن في أي مكان من العالم سوى عليهم وحدهم.
ذلك التصوّر سببه الوحيد أنّ أرواح السوريين التي انتزعها الموت على نحو مفاجئ ما كان لها أن تفارق الحياة، وتغيب عنها لو أن الموت لم يتربص بالسوريين شرّاً.