جوزيف جريج – مهندس استشاري – الناس نيوز :
تضمن الجزء الأول من هذا المقال لمحة عن الري من نهر الخابور الذي بدأ مع ظهور بلدات
على طرفي النهر في النصف الثاني من ثلاثينات القرن العشرين. ومن ثم ظهور مشاريع ري
كبيرة نفذها القطاعان العام والخاص .. وصولاً إلى البدء بدراسة وتنفيذ مشروع الخابور بهدف
الاستفادة من مجمل مياه النهر بالزراعة. ومن بعدها تعثر هذا المشروع بعد تناقص تدفق مياه
ينابيع النهر في رأس العين إلى أن جفت تلك الينابيع, وتوقف جزئياً تنفيذ المشروع, ولم يعد
ممكناً استثمار ما نُفذ منه.
إذاً … كيف بدأت المشكلة, و ماذا فعلت الجهات المعنية , وما هي النتائج, وهل هناك حلول ؟
في منتصف ثمانينات القرن العشرين أنجزت شركة "أغروكومبلكت" البلغارية دراسة مشروع
الخابور و تمت المباشرة بتنفيذه. و كان من المخطط وفق الدراسة أن يتم ري 150 ألف هكتار
لكامل الموسمين الصيفي و الشتوي, أي بنسبة تكثيف 200 % وذلك استناداً للموازنة المائية
للنهر أو الواردات المائية له.
يصب في نهر الخابور عدد من الروافد والمسيلات الشتوية, ولكن الوارد الأساسي لمياه النهر
يأتي من ينابيع رأس العين الواقعة على طبقة مياه جوفية تمتد جنوب وشمال الحدود السورية
التركية عند رأس العين, وهذه الطبقة تتغذى من الحوض الصباب الذي تتساقط عليه الأمطار
في تركيا, وترشح لباطن الأرض لترفد تلك الطبقة الجوفية بالمياه.
إن منسوب المياه بالطبقة الجوفية يتأثر بكمية مياه الأمطار التي ترشح إليها, وبكمية المياه
المستجرّة بالضخ من الآبار الواقعة على تلك الطبقة. وينخفض هذا المنسوب مع أي انخفاض
بكميات الأمطار بالسنوات الجافة, أو بسبب أي ضخ زائد عن واردها المائي من الأمطار.
ومعرفة ذلك ضرورية لفهم ما الذي نتج عن حفر الآبار لاحقاً.
عندما كانت الشركة البلغارية بالمراحل النهائية للدراسة كان حفر الآبار يجري بوتائر متسارعة
في تركيا وفي سوريا. فقد تم في تركيا حفر أعداد كبيرة من الآبار الضخمة ذات التصريف
العالي شمال رأس العين على الحامل المائي الجوفي (الطبقة المائية ) المغذي لينابيع الخابور,
وذلك لسقاية المشاريع الكبيرة التي بدأت بالظهور في تلك المنطقة من تركيا آنذاك.
ترافق مع الحفر في الجانب التركي حفر أعداد متزايدة من الآبار في سوريا. وإذا كنا لا نملك
أرقاماً دقيقة عن عدد الآبار المحفورة في تركيا وعن كميات المياه المستجرّة منها, إلا أن عدد
الآبار المحفورة في منطقة تغذية ينابيع رأس العين داخل سوريا عام 1984 كان 232 بئراً و
كانت تروي 2400 هكتار , و في عام 1991 بلغ عدد الآبار المحفورة 1650 بئراً تروي
34000 هكتار, واستمر التزايد بعدد الآبار إلى أن وصل في 2006 إلى 2390 بئرا تروي
45000 هكتار من المشاريع الخاصة.
تسبب ضخ المياه من العدد الكبير للآبار في سوريا وتركيا باستنزاف الطبقة المائية التي تغذي
ينابيع الخابور وبدأ منسوب تلك الطبقة بالانخفاض مما قلل من تدفق المياه من تلك الينابيع .
عند المباشرة بدراسة مشروع الخابور كان تصريف ينابيع رأس العين بحدود 45 مترا مكعبا
بالثانية (م3/ثا) أي ما يعادل حوالي 1.4 مليار متر مكعب سنوياً, وقد وضعت "أغروكومبلكت"
دراستها استناداً لهذه الكمية التي كانت نتيجة معطيات و قراءات لتصريف الينابيع استمرت منذ
الأربعينات إلى حين المباشرة بالدراسة.
بدأ تدفق أو تصريف الينابيع ينخفض مع تسارع حفر الآبار فوصل عام 1990 إلى 38 م3/ثا
وتراجع بسرعة خلال 6 سنوات إلى 23 م3/ثا, وفي عام 97 انخفض إلى 15 م3/ثا, و وصل
عام 99 إلى 10 م3/ثا فقط, ثم تراجع إلى 6 م3/ثا فقط عام 2000 … ومع بدء الألفية الثالثة
توقف جريان ينابيع الخابور !!
لقد كانت كميات المياه التي يتم ضخها سنوياً تزيد عن الواردات المطرية التي يمكن أن تتسرب
للطبقة الجوفية المغذية لينابيع رأس العين بأفضل السنوات لناحية الوفرة المطرية. وكان من
الطبيعي تناقص منسوب هذه الطبقة عاماً بعد آخر .. إلى أن توقفت الينابيع عن الجريان فوق
الأرض.
و بالطبع …. فإن تناقص تدفق مياه الينابيع لم يكن يحصل دون ملاحظة. فقد أرسلت الشركة
الدارسة لمشروع الخابور في بداية العام 1985 كتاباً لوزارة الري تشرح فيه خطورة استمرار
حفر الآبار على الموازنة المائية للنهر, وعلى مستقبل مشروع الخابور الذي درسته تلك
الشركة, كما عبرت جهات فنية أخرى داخلية وخارجية بمراسلات رسمية عن مخاوفها من
استمرار الحفر وتأكيدها على ضرورة إيجاد وسائل أخرى لتوفير المياه, مثل استخدام طرق ري
حديثة والتفكير بمشاريع ري جماعية.
نظراً لأن ري المشروع يعتمد أصلاً على المياه الجوفية المنبثقة من ينابيع الخابور … فقد كانت
الدراسة البلغارية منذ البداية تأخذ بعين الاعتبار وتؤكد على حماية الحوامل المائية الجوفية و
ضرورة الحفاظ على استدامتها. وعند انخفاض تدفق الينابيع قامت الشركة بتعديل الدراسات
أكثر من مرة إلى أن قدمت عام 1993 طبعة نهائية استناداً إلى مدى كفاية المصادر المائية
المتاحة لمشروع ري الخابور والمقدرة آنذاك بحدود 28 م3/ ثا.
استمر حفر الآبار بين مد وجزر وتوقف ومتابعة, وتجاذبت العملية التحذيرات الفنية من جهة
والرغبة الشعبية وأحياناً الرسمية باستمرار ضخ المياه لإنتاج القمح والقطن, فجرى التوقف عن
الحفر أحياناً وزاد التشدد في منح تراخيص حفر الآبار, وتم ردم آبار غير مرخصة أحياناً. وتم
منع زراعة القطن التي تستهلك مياه أكثر من القمح, مع السماح بزراعته ببعض السنوات
المطيرة في نسبة صغيرة من الأراضي, وكذلك تم إيقاف الزراعات الصيفية في رأس العين, مما
تسبب في زيادة المشاكل الاجتماعية ومن ضمن ذلك الهجرة.
لم يكن لإجراءات الحكومة السورية والجهات الوصائية على المياه فاعلية تُذكر في تعافي
الينابيع لأنها أتت متأخرة كثيراً.. ومن المهم هنا أن نذكر أن إحدى وسائل الضغط لاستمرار
الحفر هي القول إنه إذا لم نضخ المياه لأراضينا فستقوم تركيا بضخها لأراضيها. و أصلاً لم
تكن حينها العلاقات بين سوريا وتركيا تساعد على مناقشة مثل هذه المواضيع. وفوق ذلك فقد
استمر تنفيذ بعض الأجزاء. وعلى سبيل المثال فقد تم في عام 1991 الإقلاع بمشروع قناة تل
منصور المخصصة لري 27 ألف هكتار عبر محطة ضخ ضخمة من السد الشرقي تدفقها 27
م3/ ثا بالرغم من ارتفاع الكثير من الأصوات لمنع التنفيذ.
عند توقف الينابيع عن الظهور كان قد تم تنفيذ البنية التحية الرئيسية لمشروع الخابور من سدود
ومحطات ضخ وأقنية كبيرة , و كامل الشبكات الحقلية لمساحة بحدود 60 ألف هكتار معظمها
بين الحسكة ورأس العين . وكان من الضروري إيجاد حلول إسعافية لاستمرار الري في
المساحة المنجزة. وسنعرض هنا أهم تلك الحلول.
ضخ المياه من الحوامل المائية في نطاق رأس العين كحل إسعافي ومؤقت
قامت مديرية الري في حوض دجلة والخابور بعد العام 2001 بحفر وتجهيز 116 بئرا في
سرير نهري الخابور والجرجب ( 86 على الخابور ) وبغزارة إجمالية كان مقدراً أن تصل
حتى 15 م3/ثا وهي تكفي لري المساحات المنفذة بمشروع الخابور جزئياً وتأمين احتياجات
مياه الشرب والاحتياجات الأخرى للمنطقة. وبسبب استمرار انخفاض منسوب مياه الطبقة
الجوفية التي حُفرت عليها الآبار لم تتجاوز الغزارة 6 م3/ثا, وانخفضت لاحقاً حتى 3 م3/ثا
فقط. وهذه المياه أصبحت لتأمين مياه شرب الحسكة. ومع تفاقم مشاكل الطلب على المياه
للزراعة كان لابد من التفكير بحلول استراتيجية.
جر المياه من نهر الفرات إلى رأس العين
بدأ منذ العام 2000 التفكير بجر مياه نهر الفرات إلى رأس العين, وإطلاقها في مجرى نهر
الخابور بهدف ري الأجزاء المنفذة من مشروع الخابور بكامل بنيتها التحتية و شبكات الري
الحقلية والتي تزيد عن 60 ألف هكتار, وبما يسمح باستمرار تشغيل كل منظومة العمل المنفذة
في تلك المساحة. كما تم لاحقاً طرح مقترحات أخرى لجر مياه الفرات من موقع حلبية زلبية.
كانت المقترحات الأولى تتحدث عن جر 22 م3/ثا. وتم لاحقاً تخفيض الكمية, واستمر تداول
تلك المقترحات دون تنفيذها.
لم تجد المقترحات قبل عام 2011 طريقها للتنفيذ لعدة أسباب, ومنها معارضة بعض الفعاليات
في حوض الفرات لأن المياه التي سيتم نقلها ستكون على حساب مشاريع استصلاح الأراضي
المقرر تنفيذها على تلك المياه. كما عارض فنيون نقل مياه حوض الفرات إلى حوض دجلة
والخابور لتخوفهم من اعتبار تركيا للحوضين بمثابة حوض مائي واحد بعد عملية النقل …
وهذا لن يكون بمصلحة سوريا عند إبرام اتفاق سوري تركي نهائي على اقتسام مياه الفرات.
تم إعادة إحياء وتحديث المقترحات عام 2011 و بمشاركة كاتب هذه السطور بإعدادها.
وتضمنت تنفيذ قناة أنبوبية مضغوطة بطول 112 كم من موقع مليحان 15 كم شمال شرق
الرقة حتى رأس العين, أو قناة مكشوفة أطول من الأنبوبية. و من المرجح أن المقترحات
المقدمة عام 2011 كانت ستكون مقبولة أكثر من أي وقت آخر لأن المقترح البديل وهو جر
المياه من نهر دجلة كان بعيد الأجل أكثر. ولأسباب أخرى منها ضغط الفعاليات الشعبية
والرسمية والمائية في الحسكة … ولكن الحرب أوقفت كل شيء.
جر المياه من نهر دجلة إلى رأس العين
يشكل مجرى نهر دجلة الحد الفاصل بين الجمهورية العربية السورية من جهة وبين تركيا
والعراق من الجهة الأخرى . ويبلغ طول المجرى المشترك مع تركيا حوالي 39 كم في حين أن
طول المجرى المشترك مع العراق هو 5.2 كم .
وللاستفادة من حصة سوريا من مياه نهر دجلة, تمت دراسة مشروع ري دجلة الذي يهدف إلى
إرواء مساحة 150 ألف هكتار وفق تقنيات الري الحديثة التي توفر باستهلاك المياه, وانتهت
الدراسات عام 2000 .
أبرمت سوريا والعراق عام 2002 اتفاقاً يقضي بقيام سوريا بضخ 1.25 مليار متر مكعب من
مياه نهر دجلة, وتم تحديد موقع محطة الضخ قرب قرية خالدية في مثلث الحدود السوري
العراقي التركي. وبعد تحسن العلاقات السورية التركية تم إعادة اعتماد تنفيذ المحطة – كما
نصت الدراسة الأصلية – في عين ديوار في أقصى الشمال الشرقي من سوريا. وقامت الشركة
العامة للدراسات المائية في سوريا بتحديث دراسة مشروع دجلة بناءً على المعطيات الجديدة.
يتضمن مشروع دجلة تنفيذ محطة ضخ كبيرة بغزارة بغزارة تصل حتى 100 م3/ثا وترفع
المياه ما يقارب 108 أمتار لتصبها في قناة عين ديوار التي تنقل المياه المسحوبة من النهر إلى
الغرب باتجاه أجزاء المشروع … ومن ضمن تلك الأجزاء ستكون هناك قناة لإيصال 500
مليون م3 سنويا من مياه دجلة إلى سرير نهر الخابور لسقاية القسم المنجز بمساحة 60 ألف
هكتار … وتأمين احتياجات الحسكة لمياه الشرب وباقي الاستعمالات.
كان إيصال المياه للخابور من أهم التحديثات على مشروع دجلة, ومن عناصر زيادة الجدوى
الاقتصادية لهذا المشروع, كما كان عنصراً ضاغطاً للإسراع بتنفيذه.
في العام 2010 جرى تنفيذ حوض السحب لمحطة الضخ الضخمة في عين ديوار, كما جرى
في ٢٠١٢ تأمين تمويل مشروع دجلة المقدرة كلفته بحدود 150 مليار ليرة
آنذاك ( 3 مليار دولار).
خلاصة واستنتاجات.
أدى جفاف ينابيع الخابور إلى تحول نهر الخابور إلى مجرد مسيل ماء شتوي, وأدى إلى هدر
كبير بالاستثمارات التي جرى صرفها على تنفيذ أجزاء المشروع وخاصة بعد الجفاف, وإلى
توقف استثمار 60000 هكتار مكتملة التنفيذ. كما أدى إلى تعثر المشاريع الخاصة التي
استنزفت المياه بالضخ الذي تزايدت أعماقه وتكاليفه سنة بعد أخرى… كما استوجب ذلك
الجفاف تنفيذ مشاريع جر المياه من نهر الفرات أو من نهر دجلة, وهي مشاريع مكلفة وتستغرق
وقتاً لتنفيذها. فقد يحتاج نقل المياه من الفرات 3 سنوات و يحتاج 5 سنوات كحد أدنى للنقل من
دجلة.
إن غياب الرؤية طويلة الأمد لدى أصحاب القرار كانت سبباً في كارثة مالية لا تبررها
شعارات إنتاج القمح, و كارثة اجتماعية تمثلت بتزايد هجرة الناس من ضفاف الخابور داخل
وخارج سوريا … ولم يكن ينقص القرى على ضفاف النهر سوى الحرب حتى تفرغ تماماً من
سكانها.
لا أحد يعرف ما هو عدد الآبار المحفورة خلال السنوات القليلة الماضية في ظل الحرب و
غياب أي قانون أو أي رادع. وبالتالي فقد تكون الأمور اتجهت للأسوأ لناحية عمق المياه
الجوفية في المنطقة.
… بعد العام 2012 توقفت المشاريع في منطقة دجلة والخابور, وتوقفت كل الأفكار المتعلقة
بدعم مشروع الخابور من الفرات أو من دجلة… وتأخرت كل الأحلام بالعودة لرؤية الأشجار
على ضفاف نهر الخابور الحزين.
متى ستعود المياه للخابور ؟ وما هو مصدر المياه ؟ و من سيموّل المشروع ؟ وغير ذلك من
الأسئلة العالقة .. بانتظار نهاية الحرب في تلك البقاع المنكوبة.