د . محمد حبش – الناس نيوز ::
عاصفة من البيانات والاتهامات والغضب كما هو معتاد لدى كل محاولة جديدة لإطفاء الحريق السوري ….
فما هو مؤتمر بروكسل الذي انعقد هذا الأسبوع في العاصمة البلجيكية، ومن هم أطرافه وعرابوه وداعموه، وهل يحمل للشعب السوري أملاً للخلاص؟.
إنه مشوار جديد للسوري التائه الذي ضاع في نوادي الأمم وهو يصرخ بكل اتجاه لوقف مأساة دامية عصفت بهذا البلد المنكوب منذ عقد ونصف، وتسببت في موت نصف مليون وغياب مثلهم وشراد عشرة ملايين ودمار مئات القرى والمدن، وجاءت بخمس جيوش غاشمة تعربد على أرض سوريا ، منها الإسرائيلي والأمريكي والإيراني والتركي والروسي وغيرهم بشكل مباشر أو غير مباشر ، ووقف الجميع في النهاية موقف الحسبلة والحوقلة والجعفلة والطبقلة، إلا النظام الأسدي البائس القائم على قاعدة: شو ما صار انتصار!!!
هذه المرة محاولة جديدة، ربما كانت مختلفة بعض الشيء في الشكل والمضمون، فبلجيكا ليست طرفاً في أي نزاع سوري، وهي بلد محايد ، مع الاعتبار انها عاصمة الاتحاد الأوروبي ، والجهة الداعمة هي أولف بالما السويدية وهي منطمة دولية كبرى تعمل للسلام في القارات الخمس منذ عقود تأسست 1978 ثم أطلق عليها عام 1992 اسم أولف بالما رئيس الوزراء السويدي صديق المسلمين الذي أعلن عام 1985 عام الإسلام في السويد، وكرس حياته للسلام ودفع حياته ثمناً لذلك حيث اغتاله مجهول مطلع عام 1986 ولم يتم التعرف عليه إلى اليوم.
ولكن ما هي بوصلة هذا اللقاء وغاياته؟
تعود المبادرة في عقد هذا اللقاء إلى عدد من الناشطين السوريين من دمشق وحلب الذين أمضوا سنين طويلة في سجون النظام السوري، وعدد من النشطاء البارزين في السويداء وريف حلب، وناشطون من الداخل، بالتعاون مع الإدارة الذاتية في شرق الفرات، التي أنجزت على الأرض واقعاً مختلفاً وواجهت بشجاعة وقوة تغول داعش وجرائمه على أراضيها، ودفعت في سبيل وقف هذا التوحش أكثر من عشرة آلاف شهيد.
الحراك الجديد في السويداء بات محل تقدير الجميع لأنه لم يستخدم العنف، ولم يدمر مرافق الدولة، وقدم نموذجاً جديداً للوعي والبناء والوحدة ، علماً أن باقي المكونات السورية فعلا ذلك منذ البداية ، إلا أنها اضطرت لترك خيار الحراك السلمي الخ .
الجميع هنا يبحثون عن حل، لقد مني الحراك السوري بسلسلة من الإخفاقات، ودفع أثماناً غالية، ولم ينجح في توفير منصة دولية حقيقية يثق بها الشعب السوري تنقل معاناته إلى المحافل الدولية وتعمل على إنهاء المأساة.
الخطاب السائد هنا ليس الثأر ولا الانتقام، وليس التخوين ولا الاتهام، الجميع ضحايا والجميع جلادون، وما نريده هو التوحيد لسوريا التي توشك أن تصبح حكاية من الماضي، والخلاص لشعب تشرد في أطراف الأرض، ولا زال الملايين من أبنائه في بلاد النزوح الأليمة لبنان والأردن وتركيا يعانون الأمرين، وكذلك في النزوح الداخلي الذي يتم خارج الظروف الإنسانية، حيث أطفال ونساء لا يجدون غذاء ولا دواء ولا تعليماً صحيحاً ولا فرص حياة، ويقيم معظمهم فيما يشبه الإقامة الجبرية بين القهر والعذاب.
السوريون لهم منابر شتى، وهذا أحد هذه المنابر، يلتقي فيه الذين يؤمنون بالديمقراطية حلاً، ومع ذلك فرسالته احترام أولئك الذين يملكون رؤية أخرى، ويمكن أن نتصور أنهم مع العدالة والتشاركية والشورى وإن كانوا يرفضون كلمة الديمقراطية، ولا بد أن نلتقي على مقاصد مشتركة فالإنسان أخ الإنسان أحب أم كره، ولا بأس أن نلتقي في واحد ولو اختلفنا في عشرة.
العنوان هنا هو توحيد سوريا بدلاً من العنوان الغاضب تحرير سوريا، حيث التحرير مشروع حرب ودم، وثأر وانتقام، فيما يكون التوحيد مشروع تفاوض وحوار، وتفاهم وإعذار، حيث نعمل فميا اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.
لقد طرحت موقفاً قريباً من هذا في قناة سوريا التي تبث من مدينة إسطنبول التركية ، ( الممولة من حكومة قطر ) ، وكان مبادرة بعنوان: 4+1 وهي تتضمن دعوة الأطراف الأربعة من السوريين الذين يملكون جزءاً من الأرض السورية وهم تحديداً: شرق الفرات وشمال حلب وإدلب والسويداء لنصب منصة مشتركة، يتم فيها الحوار والتعاون وصولاً إلى الحوار مع الطرف الخامس الذي هو النظام، ليس على أساس الاستئصال والإلغاء بل على أساس الحوار والتفاهم، وإنهاء عقد ونصف من السنوات الدامية، والبحث عن حل يشبه ما تحقق في هذا العالم المضطرب.
لقد تحاربت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا في حرب طاحنة مدمرة، تسببت في ستين مليون ضحية، ودمار أوربا، ولكنهم بعد ذلك جلسوا إلى موائد الحوار ووجدوا طريقاُ للتفاهم والحوار ، وأعادوا بناء أوطانهم، ونجحوا في تأسيس ماستريخيت وستراسبورغ ومؤسسات الحوكمة والإدراة في بروكسل ولاهاي، ونجحوا في وقف الحرب خمسة وسبعين عاماً عاش الشعب الأوروبي فيها حياة مزدهرة، ونجحوا في الانتصار على الحرب.
فهل يدرك السوري أنه ليس وحيداً في هذا الوطن، وأن شركاء آخرين من أبناء وطنه يختلفون عنه في القومية واللغة والدين، ولكنهم شركاء في قدر هذا الوطن المنكوب.
قد يكون عسيراً أن تطالب المنكوبين بنسيان الجراح والآلام، ففي بيت كل سوري دراما حزينة، ولكل سوري خصومه من هذا الوطن المعذب، وما تراه ملائكة يراه غيرك شيطاناً، وما تراه شيطاناً يراه غيرك ملاكاً، لقد ذهبت بنا ثقافة الكراهية إلى الغاية وأصبحنا نعيش في وادي الذئاب، ولكن القدر الوحيد الذي يمكننا أن نتجاوز فيه الماضي بجراحاته هو النظر إلى المستقبل، والبحث عن الحلول الممكنة ووضع حد للشراد والنزوح والسجون.
إنها قراءتي لهذا الحراك الجديد، ولا شك أنها ستصطدم بكثير من الاعتراضات والرفض، وسأكون سعيداً أن أفتح حواراً مباشراً مع الناس هنا على صحيفة الناس نيوز الأسترالية ، فربما تتبين لنا حقائق غائبة، وبوارق الحقائق تنبع من مصادمة الأفكار.
المستقبل هو المقدس، والماضي هو الجراح.