محمد حبش – الناس نيوز :
مع أنني أعترض على منح ختم الدولة لرجل الدين من جهة المبدأ، وأعتقد أن الفتوى حق الناس وليس شأن السلطة، ولكن إلغاء منصب المفتي العام بالصيغة التي حصلت في سوريا لا يخدم أي هدف حيوي، وهو لم يأتِ في سياق حوكمة ودراسة موضوعية بل جاء كما يعلم الجميع نتيجة تطاحن شخصاني وفئوي، ومباراة قميئة في إثبات الولاء والبراء للنظام الاستبدادي، تمت المبالغة فيها إلى حد لم يعد ينفع معه أي تبرير.
ولكن الأسوأ هو أن تتحول السلطة الدينية من منصب شرفي رمزي اسمه المفتي العام إلى مجلس كهنوتي يقدم نفسه بصيغة أنه يمثل الإجماع فيما يمثل معارضوه الهراطقة والزنادقة.
وقد كان ممكناً أن يقال إن التحول من فتوى الفرد إلى فتوى الجماعة هو تحول ديمقراطي، حيث تكون الجماعة أبعد عن الشخصانية والخطأ، وأدعى لتوزيع الصلاحيات وتحقيق تشارك مجتمعي في صناعة الفتوى، ولكن المجلس الفقهي قام بتدمير هذه الأوهام، وأعلن عن نفسه بدون مواربة أنه مجلس يمثل السلطة، وأنه قادم لخوض معارك ماحقة مع أعدائها، وبالحرف الواحد نشرت جريدة الثورة الحكومية 20/11/2019 تصريحاً حكومياً بأن المجلس شريك فعال في حلبة الصراع بين الفئات الدينية وجهاز السلطة، وقال بالحرف الواحد إن المجلس قادم ليسحق “فكر أعداء الأمة من الصهاينة والمتطرفين والتكفيريين وأتباع الإسلام السياسي وإخوان الشياطين والوهابية… والذين يعترضون على صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان” .
ولا نحتاج إلى تأمل طويل لندرك أن نصف الشعب السوري على الأقل بات مستهدفاً من محاكم التفتيش الجديدة، وأننا سنضيف إلى محكمة الإرهاب ومحكمة أمن الدولة محكمة أمن الدين!
ولا شك في أن هذا المجلس ليس كمنصب المفتي السابق الذي كان بلا مخالب ولا أظفار، بل هو مجلس يملك الصلاحيات الماحقة ضد (المنحرفين)، وهو معين بالكامل من قبل السلطة، وسيحدد للناس التفكير الديني السوي والمستقيم، وسيمثل إجماع الموقعين عن رب العالمين وسيلقي بالمخالفين في دائرة الهراطقة والزنادقة، ومن المؤكد أنه سيملك حق الخصومة القضائية وزج المخالفين في السجون، وقد كان أول ضحاياه المفتي العاثر نفسه الذي تم اتهامه رسمياً بالهرطقة والضلال بسبب تفسير تائه لسورة التين والزيتون وخلال أيام قليلة من صدور الفتوى الشرعية بحقه تم عزله بشكل مهين، وكان أول ضحايا هذا المجلس الكهنوتي.
ويشير بعضهم إلى أن هذا المجلس الموعود لا يمكن أن يحكم بفتاوى التكفير لأنه يتكون أصلاً من المذاهب المتعددة ففيه السنة والشيعة والدروز والإسماعيلية والعلوية، وهذا صحيح، وبالفعل فمن غير الوارد أن يحكم بالتكفير ضد الطوائف وفق طريقة ابن تيمية، ولكن يمكن بسهولة أن يحكم بالتكفير ضد كل المعارضين للسلطة ومن الطبيعي أن يدمغهم بوصم الوهابية والسلفية والإسلام السياسي والارتباط بالصهيونية العالمية والمؤامرة الكونية ويطلب محاكمتهم كما قال نص بيانه المنشور في الصحف الحكومية، بل إن المشاركين لم يعترضوا على مهمة المجلس الإكليروسية بأن يحاكم الذين يرفضون صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان رغم ضبابية هذا القول ورغم الحمولة اللاعقلانية التي سيلزم الناس التسليم بها وإلا الإحالة إلى القضاء!
ويعود منصب المفتي العام إلى تقاليد الدولة العثمانية في تحديد رتب رجال الدين وطبقاتهم، وقد كانت كلمات مثل صاحب السماحة أو صاحب الفضيلة مناصب محددة بقوانين ولا يجوز أن يطلق صاحب السماحة على صاحب الفضيلة ولا العكس، وأول من وُليّ هذا المنصب أيام السلطان مراد الثاني هو شمس الدين الفناري 1430م وقد استمر هذا المنصب نحو ستمئة عام، وبعد العثمانيين عرفت سوريا ستة من المفتين وهم على التوالي: الشيخ عطا الكسم والشيخ شكري الأسطواني والشيخ أبو اليسر عابدين والشيخ عبد الرزاق الحمصي والشيخ أحمد كفتارو وأخيراً الشيخ أحمد حسون.
ويتصور العامة أن اجتماع الفقهاء سينهي الجدل في الشأن الديني، ولن يحتار الناس بعد ذلك في فهم تفسيرات الدين، وهذا غاية الوهم، فالجدل مستمر بكل تأكيد ولا يمكن لأحد حسمه أو حصره والسبب الحقيقي هو طبيعة النص الديني، وهو نص أدبي تربوي يحتمل تأويلات كثيرة، ولا يمكن تحويله إلى نصوص قانونية حاسمة، فهو قصص وأخبار ووعد ووعيد وجنة ونار، وهذه مسائل لا يمكن إدخالها المخبر وإصدار أحكام موضوعية صارمة بحقها، ثم تحويلها إلى نصوص قانونية حاسمة، ولذلك فإن طبيعة النص الأخلاقي والتربوي في التاريخ هو تعدد الرؤى والتأويلات عليه، أو وفق تعبير الصحابي الجليل علي بن أبي طالب: القرآن حمال أوجه.
مهمة الدولة إصدار القوانين التي تفصل بين الناس وتحدد مقاطع الحقوق، وليس تفسير نصوص الغيب، وفرض رؤية لاهوتية على الناس، ولا تحديد أحكام الصلاة والصيام والحج التي هي شعائر يؤديها العبد بينه وبين الله، ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، وسبيل معرفة ذلك كله هو الاجتهاد الموثوق الذي يقوم به الأتقياء من الناس، ويتبعهم العامة، دون فرض من أي سلطة سياسية، وفق قاعدة قرآنية حكيمة: فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
وقد حدد الفقهاء أهل البصيرة الفوارق الدقيقة بين القضاء وبين الفتوى، حيث يجب أن تفرض الدولة القضاء وليس لها أن تفرض الفتوى، فالفتوى حق الناس والقضاء حق السلطة، والفتوى غير ملزمة، والقضاء ملزم، والفتوى تتعدد، والقضاء لا يتعدد، والفتوى اجتهاد والقضاء اتباع، وهي فروق واضحة تميز بدقة بين طبيعة الفتوى المتصلة بالاجتهاد والرأي وطبيعة القضاء المرتبطة بتطبيق القانون.
في تاريخ الفتوى منذ الاستقلال لم يصدر عن المفتين الخمسة أي بيان شخصي ضد أحد، باستثناء حالة واحدة نادرة، ولم يقم المفتي بالمطالبة بمحاكمة أحد، حيث لا يسمح هذا المنصب الشرفي بإجراءات كهذه، ولكن المجلس الجديد سيمضي دون شك إلى مواجهات ماحقة ضد الخصوم الذين سماهم بدقة، وسيكون من السهل القضاء معنوياً على كل مفكر حر يقوم بالاجتهاد في فضاء من الحرية، وكذلك أي ثائر يقارع الاستبداد، كما أنني لا أكتم خوفي أن يمضي المجلس الموعود في تحويل رؤيته إلى قوانين وإلزام الناس بها وسيكون ذلك بكل تأكيد بمثابة اغتيال للعقل والمنطق وتكريس للقمع والجبر ومحاكم التفتيش، والولوج من جديد عبر الجيزوليت والهوغونوت إلى عالم العصور الوسطى المظلمة.