د. أحمد برقاوي -الناس نيوز ::
تواضَع الناس العاديون، كما تواضَع العلماء، على أن العصر مفهوم يشير إلى الزمن المعيش المتّسم بسمات بارزة تدل عليه، وإيضاحاً أكثر لمفهوم العصر نقول: إن العصر دالٌ على مرحلة من تاريخ البشر، فيما المعاصرة هي الوجود الآن. فإذا قلت العصر الوسيط، سرعان ما يذهب ذهنك إلى مرحلة التقدّم العربي؛ العلمي والفلسفي والأدبي إلخ، وإلى مرحلة التأخّر الأوربي بالقياس إلى التقدّم العربي ـ الإسلامي.
فيما لو أنك تحدّثت عن عصر النهضة، فإنك تُبرز التقدّم الأوروبي والانقلاب الهائل في العلم والوعي العلمي وقيمة الإنسان. ببساطة تتحدّث عن مركزية الإنسان في أوروبا في مقابل استمرار مركزية الإله في الشرق. أما إذا تحدّثت عن عصرنا الراهن فإنك تتحدّث عن انتصار الرأسمالية المتعولِمة، والتقدّم الهائل في وسائل الاتصالات، تتحدّث من الثورة النيتروـ الكترونية، وفكرة الحرية، والاستبداد الأميركي بالعالم، وتعدّد مراكز الرأسمالية.
ماذا يعني أن تكون معاصراً؟ الجواب البسيط والصحيح، هو أن تنتمي للعصر الراهن. ماذا يعني أن تنتمي للعصر؟ شئنا أم أبينا هناك أمم عالمية تطبع العصر ـ أيّ عصرٍـ بطابعها. هذا كان حال العرب في العصر الوسيط، وهذا حال أوروبا وأميركا في عصرنا الراهن.
يُضاف إلى هذه الدول الأوروبية والأميركية الآن، اليابان والصين وكندا واستراليا وما شابه ذلك. ومن شيمة هذه الأمم العالمية أن تكون توسُّعية ذات نزوع إمبراطوري، إنها وهي على هذا النحو، تقوم بدورين: الأول مقصود، وهو النزوع نحو الهيمنة والسيطرة بكل الوسائل الممكنة وبخاصّة الاقتصادية والعسكرية، والثاني عفوي: ألا، وهو التأثير المباشر وغير المباشر على نمط حياة البشر وتفكيرهم، أقصد البشر العائشين في البلاد الهامشية، وهذا يحقّق مبدأ ابن خلدون في أن الضعيف مُولع بتقليد القوي، بكلمة معاصرة؛ المتأخّر مولع بالسير على خُطى المتقدّم. ودول الهيمنة التي تحدّد سمات العصر لا تستطيع أن تتحكّم بردود فعل الدول الهامشية. كما أنه في الوقت الذي تُنتِجُ فيه دول الهيمنة السلعةَ والسلاح، تُنتَجُ في الوقت نفسه الأفكار العلوم الطبيعية والإنسانية والأدب والأيديولوجيا.
والمفارقة هي التالية: إذا أخذنا العرب اليوم بوصفهم هامشيين جداً، فإن بعض نخبهم يسعى للقيام بدور مركزي عالمي في ظلّ وجودهم الهامشي، والوجود الهامشي هو الوجود الكسلان غير الفاعل حتى في الحدود الضيقة.
وأقصد هنا التيار الأصولي الإسلامي، معتدّاً بوعي إمبراطوري قديم مؤسّس على دور الإسلام، بوصفه ديناً عالمياً. يسمح وضعٌ كهذا للوعي بأن يتحرّر شكلياً من الهامشية، لكنه عملياً لا يحوّل العرب إلى أمّة عالمية معاصرة. فالعدّة المفهومية عدّة قديمة جداً، وغير متطابقة مع أعلى مستويات تطور العصر الذي تطبعه القوة الفاعلة المُشار إليها سابقاً. أن تكون معاصراً يعني أن تتحرّر من مبدأ ابن خلدون «الضعيف مولع بتقليد القوي»، والمتأخّر مولع بتقليد المتقدّم، فالتقليد لا يُنجب معاصرة، بل تحرّراً شكلياً للوعي من الهامشية، تماماً كما هي حال وظيفة الوعي الأصولي. أن تكون معاصراً؛ يعني أن تفكر بواسطة أرقى مفاهيم المعرفــة التي أنتجتها المجتمعات المركزية، أو الأمم العــالمية. أن تفكر بعالمك وفق أرقى درجات المعرفة الإنسانية، بسيرورة الانتقال من الهامشية إلى الفاعلية. ومن شأن التفكير وفق هذا المستوى المنشود من المعرفة أن يحملك على السلوك المتطابق مع التفكير، فلا يعود هناك تناقض بين النظر والعمل.
إن طائفياً متعصباً ومشروعاً قائلاً بربطة عنق باريسية، لا يختلف عن أصولي بدشداشة وعمامة. إنهما شيء واحد، وإن اختلف الشكل، كلاهما لا ينتمي إلى العصر. ولو سئلت: ما المفاهيم التي تراها معرفةً ودرجةً أرقى من درجات الوعي الإنساني، المفاهيم التي تجعل الإنســانَ إذا ما حوّلها إلى عدّته معاصراً، لأجــبت: إنها كثيرة، ولكن الحدّ الأدنى المطلوب هو: الدولة، الحقّ، الديموقراطية، الأمّة ـ الدولة، العدالة قانوناً، الوعي العلمي، الإنسان، الشعب، الحزب، النقابة، التغير، التطوّر، التقدّم، المواطنة، الفرد، الحرية، الإنسان.غير أن هذه المفاهيم بوصفها أدواتٍ معرفية يجب أن تغتني بعلاقتها بالخاصّ المتحقّق واقعياً. وليس ترديد الخطاب الغربي ببغائياً، فتعيينُ المفاهيم واقعياً يكون بالانتقال من الكليّ إلى الخاصّ والجزئي، وهذا يتطلّب عقلاً مبدعاً. أما استمرار الوعي عبر مفاهيم: القائد، الرعية، البيعة، العطاء، التوجيه، الحسبة، الغزو، أهل الذمة، الجزية، فهذا يعني أننا ما زلنا في كهف أفلاطون، أو في مستنقع آسن!!.