الدوحة – الناس نيوز ::
بعد خمس سنوات وعشرة شهور من البحث في التراث البري والبحري، قدم الموسيقي السوري مالك جندلي، أخيراً، سيمفونية “وردة الصحراء” عبر أربعين دقيقة، عزفتها أوركسترا قطر الوطنية بقيادة المايسترو أليستر ويليس.
جاء العرض الذي حضرته الشيخة المياسة بنت حمد بن خليفة آل ثاني، رئيس مجلس أمناء متاحف قطر، في الذكرى السنوية العاشرة لمبادرة الأعوام الثقافية، وهو برنامج سنوي للتبادل والتعاون بهدف تدعيم أواصر الصلة بين الثقافات والقارات من خلال التبادلات الثنائية.
وبحسب “قنا” تماماً مثل وردة الصحراء، تحتوي السيمفونية على تركيب متشابك، يُعزف على السُلَّم الموسيقي “لا منخفض كبير”، حيث تنتهي الحركات الموسيقية الأولى والأخيرة، متألفة من ثلاثة أشكال موسيقية متداخلة، مُظهرة الموسيقى والرقصات الشعبية التقليدية في البلاد.
الحفل الذي أقيم أخيراً، هو العنوان الرئيسي الذي تنضوي تحته سيمفونيتان، الأولى السيمفونية السادسة “وردة الصحراء” وهي من تسع حركات، والثانية الرابعة من ثلاث حركات، وكلتاهما عزفتهما أوركسترا إذاعة فيينا السيمفونية وصدرا في ألبوم واحد.
استوحى جندلي عمله من الوردة التي تتشكل طبيعياً على مدى آلاف السنين عبر تفاعل المعادن والرمال والماء في الصحراء. وفي عرضه الأخير، لا يغيب الشعور بأن ثمة حواراً بين الموسيقى والمنشأة المتحفية الضخمة التي أنجزها المهندس المعماري الفرنسي جان نوفيل لمتحف قطر الوطني، فجاء الموسيقي ليضع 593 مازورة في الحركة الختامية مساوية لعدد الصفائح الخرسانية التي استلهمت روح وردة الصحراء.
لم يكتف مالك جندلي طوال سنوات بالاستماع إلى كل ما وقع عليه من موسيقى، بل ذهب إلى المناظر الطبيعية في الصحراء والبحر، من المانغروف (القرم) والكهوف، كما رصد المجتمع، وخصوصاً ما بقي راسخاً في التراث من تقاليد وفنون شعبية.
سبق له أن دمج العود مع البيانو في أعمال سابقة، غير أنه هذه المرة يدافع عن فكرة مفادها أن موسيقى من مثل “أم الحنايا” للموسيقي القطري الراحل عبد العزيز ناصر، الذي أوصل تراثه بأدواته، واستمراراً لرسالته قال إن أثره كملحن قطري جزء لا يتجزأ من تكوين سيمفونية “وردة الصحراء”.
كذلك الحال مع أغنيات شعبية، مثل القرنقعوه الرمضانية والعايدو المحتفية بالعيدين، كان عليها أن تقدم في قالب السوناتا Sonata form، أي القالب الذي يُقرأ ويُعزف في أي مكان من العالم.
هذا ما قاله لـ”العربي الجديد”، مبيناً أن الألحان العربية والإيقاعات التراثية مفقودة في الموسيقى الكلاسيكية السيمفونية في العالم.
وأضاف أن كلمة سيمفونيا التي تعني في الإغريقية أن نجتمع ونؤدي معاً، عليها أن تفعل ذلك من دون وجودنا، بعيداً عن أي التباسات استشراقية، بل أن تكون جزءاً من موسيقى العالم، لأنها غنية وتستحق ولأنها أبعد من ذلك ذات صبغة إنسانية عالمية.
ومضى في هذه النقطة يقول إن العرب منذ كانت بغداد “دار السلام” عاصمة الحضارة، استوعبت مقامات هائلة العدد وطورتها، محافظة على أسمائها، فلماذا تكون السيمفونية حكراً على قوالب غربية. هذه ليست قوانين داروين التي تجعل الناس طبقات وجودية، بل هي تفاعل البشر جميعهم في بحثهم عن الحقيقة والجمال.
مع بداية تجربته لتقديم “وردة الصحراء” مع أوركسترا نمساوية، في فيينا حيث إحدى عواصم الموسيقى الكلاسيكية في العالم، لمح أنهم استغربوا وجود موسيقى غير مألوفة للأذن، حتى، يضيف، أنهم شعروا شعور من يخطئ في الإملاء، لكنه طلب منهم أن يعتبروه غير موجود، وأن يقرؤوا النوتات ويعزفوا، مضيفاً وهو يبتسم “هل كنتم ستسألون بيتهوفن الذي توفي قبل مئتي عام عن شيء ما؟”.
كل ما علينا فعله، حسب ما يؤكد، أن نأخذ إرثنا الموسيقي ونوظفه في علم الانسجام (الهارموني) والتراكب النغمي، محافظين على بصمته، مشيراً إلى أن موسيقى مثل “أم الحنايا” أو “طلع البدر علينا” أو إيقاعات المسحراتي، لها من المرونة ما لدى موسيقى الفلاحين الذين أخذ منهم تشايكوفسكي مثلاً الكثير في أعماله التي نؤديها في كل مكان.
وعليه، فإن جندلي يدافع عن أن رحلة الحداثة الموسيقية الكلاسيكية تجد في الموسيقى العربية منهلاً ليس حقيقياً فقط، وإنما ذو أصالة، بعيداً عن الحلول الاستشراقية التي تنمط شرقنا في “علاء الدين والأربعين حرامي”، كما أنه يدعو إلى أن تكون هذه التجارب مجالاً لحيوات متجددة تحفظ موسيقانا للأجيال القادمة.
لمالك جندلي أساتذة ومؤثرون كانوا مسهمين في تأسيس معرفته وشقّه طريقه، على أن يكون فوق ذلك “حراً طليقاً”.
يستذكر دون تردد أسماء مثل الشيخ علي الدرويش الحلبي (1882- 1952) الذي قال إنه أستاذه في الموسيقى العربية، بل ويعتبره أهم الموسيقيين العرب، وقد كان يتقن عدة لغات، وله الفضل في توثيق التراث العربي، أما في الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية فهناك من بيتهوفن، إلى ديمتري شوستاكوفيتش يقرأ تراثهم ويصل إلى أن لا موسيقى تألفت دون أن تنهل من الأرض، أي من موسيقى الشعوب.
دفع الموسيقي آلة البيانو التي يعزف عليها دائماً إلى خلفية المشهد. ومثلما تعامل مع آلة العود كأنها بيانو، وظف الأخير آلة إيقاعية، فهو نتاج الثورة الصناعية بما فيها من ميكانيزم الفولاذ والخشب.
والبيانو الذي نحن بصدده، يلعب دوراً مميزاً منذ سنوات ضمن مشروع مؤسسة “بيانو من أجل السلام”. ففي كل عام تجمع عشرات البيانوهات عن طريق التبرعات وتزركش بألوان زاهية، ويعزف عليها الموسيقيون في الأماكن العامة من محطات المترو والحدائق، وصولاً إلى المؤسسات التعليمية ودور الرعاية، وتهدى أخيراً إلى الجهات التي لا تسمح مواردها بشرائها، لتقول الموسيقى كلمتها بلغات العالم مع السلام وضد أي شكل من أشكال العنصرية.
الجدير بالذكر أن جندلي أعلن موقفه المؤيد للثورة السورية ضد نظام الأسد وقال: “عشرون مليون سوري هربوا من جور الأسد؛ هربوا لسبب واحد فقط ألا وهو الحرية. الشعوب لاتريد الأموال ولا تريد الخبز. ما نريده هو الحرية. ولذلك أقول بأن الثورة السورية انتصرت لأن حاجز الخوف قد كسر، وأصبح بإمكان السوري أن “يقول مايريد، رغم القمع.