ميشيل سيروب – الناس نيوز :
تتضافر مُعاناة الشعوب في آسيا وأفريقيا في ثلاثة محاور: الفقر والهجرة واللجوء. كيف نستطيع أن نستوعب أوجاع القارة السمراء بعد أن مشينا على دروب الجلجلة في آسيا؟ في العالم الجديد يتنفس زين وجعفر فرحَين وكأنهما في حلم.
في العالم الجديد كل شيء له مذاق آخر البيتزا والكوكا كولا والشجر، بينما هُناك في الخرطوم، كل الأشياء مُزيفة وهذه حقيقة! بهذا الوضوح وبهذه الجرأة يدفع عماد البليك أبطال الرواية للإفصاح عن مكنوناتهم بعد أن أصبح الوطن قطعة أرض مسورة يموت فيه الحلم والأمل.
في الرواية نكتشف السودان عن قُرب، إنها بلد التناقضات بلد الفقر والغنى، الجوع والشبع، المطر والجدب، في الوطن يُصبح وجود الفقير علة، يكبر جرحه في القلب، حينها، ليس في وسع الإنسان السوداني إلا التفكير بالهجرة في رحلة تُشبه الحلم إلى بريطانيا أو ألمانيا. هذا ما تفعله شخصيات الرواية عبر طرق إريتريا وكينيا وليبيا، إنها رحلة نحو مصير مجهول.
تعاني شخصيات الرواية من مافيات التهريب، وتدفع مبالغ طائلة في انتظار إجراءات اللجوء وروتين المنظمات “الإنسانية” هُناك. تُسلط الرواية الضوء على قصص الحُب المؤجلة والمحطمة، عن هجرة السودانيين لدينهم، وعن الموت المجاني في بلاد الغربة وعن إهمال السفارات لرعاياها، فالسفارات لا تهتم بالإنسان حياً كيف ستهتم به وهو ميت! تراجيديا عن الوجع السوداني والأفريقي، عن الألم الذي يسكن في ثنايا الذاكرة.
هل مهمة الأدب هي تزييف الواقع والتاريخ أم الكتابة عن قسوة الحياة بكل تفاصيلها وتعقيداتها؟ يُشرِّح عماد البليك الواقع المُر لدول أفريقية بعد اِستعراض نماذج آسيوية: أفغانية وعراقية وسورية. الرواية عن خيبة الأمل بوطن لم يحفظ كرامة مواطنيه، وعن فشل الثورات بتحقيق طموحات شعوبها.
في الرواية شخصية إريترية يتم إنقاذها من فريق تطوعي، بين الحياة والموت، يسمع الحوار التالي بين ألمانيين:
-“….إنه عربي..لا بُد أنه من ضحايا الحروب الكثيرة في بلادهم”
-“يقولون إنهم صنعوا ثورات عظيمة في الأعوام الماضية، أين مضتْ بهم”ص44.
يغوص الراوئي عماد البليك بتفاصيل حياة محمد عطا(المتهم الأول بتفجيرات11/9) ويستعرض سياسات مبارك ومحمد مرسي والسيسي وتشابه سياساتِهم في مصر والعلاقة العضوية بين تطور الدماغ والجغرافية “الجغرافية العربية لا تفرز جديداً إنها تُعيد تدوير نفسها إلى الأبد… ما لم يحدث تغيير جوهري في الدماغ. الإشكال أن ثمة خللا جينيا على ما يبدو.”ص85.
في الرواية نتعرف على ميركل كأم، تُشغل العالم بوصفها أيقونة للمُتعبين والمهاجرين الذين لفظتهم بلدانهم في الشرق الأوسط لشتى الأسباب من حروب دينية وعنف وديكتاتورية وبطالة وتصحر…إنَّ من صنع أسطورة ميركل، هم أولئك الطغاة الذين دمروا بلدانهم وعاثوا بها فساداً.
بموت مريود، أحد شخصيات الرواية، بسبب غامض بالنسبة لرفاقه، تجتهد المشافي الألمانية على اكتشاف الأمراض الحديثة التي تُصيب المهاجرين الجدد، إنه مرض عُصابي يتعلق بحالة نفسية مُستعصية يؤدي لانهيار عصبي يضرب القلب بقوة، هذا المرض أخذ يستهوي الأطباء الذين سيجلب لهم الشهرة والمال. تتداخل اللوحات الثماني في الرواية بشكل متصل- منفصل لتنسجَ جدارية كبيرة تشرح تفاصيل العذاب في الوحدة والهذيانات والنسيان.
يبرر عيسى لنانسي موقفه من الجريمة” الإنسان الذي يواجه الفقر والقلق في مستنقعات العالم الثالث المتخلف، لا بد أن يرتكب جريمة واحدة”ص179. لم يتحرر عيسى من تأثيرات البيئة، كنانسي التي لم تتحرر بدورها من عقلية أبويها بعد أن تتخلص من جنينها من علاقة حُب غير شرعية” قد يبدو الإنسان أحياناً مختلفاً لكن حقيقته تخبىء الواقع المتخفي إنه هو ذلك الكائن التاريخي
الذي ينتمي للبيئة التي جاء منها في الأصل”ص105.
بالرغم من المعاناة والحنين فإن قرار الترحيل ورفض طلب اللجوء، هو بمثابة العودة للجحيم هذا الإحساس يُراود عجيب بأن السودان أصبح وطناً من الماضي. يبحث عجيب عن وطن بديل رُبما بيروت ستكون محطته الأخيرة بعد حروبها الدامية وأيامها المكلومة.
تنسجم الرواية مع مقولة: الحياة مغامرة، إن لم تُغامر لن تعيش. المغامرة تعطي معنىً للأشياء، وطعماً آخر للبيرة في برلين كما جربتها شخصيات عماد البليك.
*عماد البليك:روائي وناقد وصحفي سوداني من مواليد1972. درس الهندسة المعمارية، وكتب العديد من الروايات: الإمام الغجري رُشحت لجائزة البوكر للرواية، وله أيضاً: شاورما، قارسيلا، دماء في الخرطوم، الأنهار العكرة، دُنيا عدي،والقط المُقدس. ولبليك رواية قيد الطبع” رسَّام الآلهة” عن حياة معمر القذافي.
الأكثر شعبية

هجرة المسيحيين السوريين بين التفكك الوجودي وتحديات البقاء…

الحكومة الأسترالية تبدأ خطوات “تعليق” العقوبات على سوريا…


