[jnews_post_author ]
تتساهل القوانين الوضعية والمبادئ الأخلاقية بخصوص ما تتحمله الحيوانات من مشاق وإرهاق، يبلغ حد التعذيب والموت في تجارب المختبرات العلمية، ولا إجماع على الالتزام بحمايتها أو مراعاتها، فالحيوانات التي نستخدمها لا تنال من الطعام إلا بمقدار ما تقدم لنا من الخدمات. لم تبلغ إنسانية البشر أكثر من انتشار جمعيات “الرفق بالحيوان” في بعض البلدان، وإن باتت العناية الفائقة بالكلاب والقطط منتشرة، اعتاد الناس على الاستئناس بها، تبعاً لما لمسوه من وفائها وحرصها على خدمة أصحابها والدفاع عنهم، وليس في هذا مبالغة، فالأمثلة أكثر من أن تحصى.
بينما تُلاحق الجرذان والصراصير، ويجهز عليها بالفخاخ والسموم، باعتبارها ناقلة للأمراض، أو لبشاعتها، وما تثيره من تقزز لدى النساء خاصة. ما أدى إلى التوافق على التحذير منها، والقضاء عليها بتنظيم حملات إبادة، حتى أن المواد التي تستعمل وصفت بـ”المبيدات” ما يحيلنا إلى مصطلح: الإبادة.
من التشدد مع الحيوانات والحشرات الضارة، نتفهم، لماذا وصف النازيون اليهودَ والغجر والمثليين والمعاقين، بالفئران، ووصف القذافي المتظاهرين ضده بالجرذان، ووصف بشار الأسد المنتفضين على نظامه بالجراثيم. وفي مذابح رواندا، أطلق الهوتو على التوتسي وصف الصراصير. هذه التوصيفات ليست وليدة هذا الزمن، فقد اعتبر المتاجرون بالعبيد أن الأرقاء ليسوا أكثر من حيوانات وثنية، وأجساد بلا أرواح. كانوا تجارة رابحة، حاولوا الحفاظ عليهم، عندما يصابون بمرض وخشية العدوى ترمى جثثهم من السفن إلى البحر. فالتجارة لا تقبل الخسارة، بينما الملّاك تصرفوا بهم كما يشاؤون، فجلدوهم بالسياط وضربوهم بالكرابيج . عموماً، هذه الأوصاف التي تحط من البشر، ذريعة تسمح بالتساهل بإبادتهم بمختلف الوسائل بالقتل الجماعي وغرف الغاز والسلاح الكيماوي.
هل هذا ما جعل المجازر في سورية عادية في بداية الثورة وخلال الحرب، وجعل ذبح الأطفال والنساء ممكنا؟ بل وكان التطرف في التعذيب شائعاً، وأشد قسوة من الذبح. فلم يُعتبر المتظاهرون، كائنات إنسانية، ولا حقوق لهم، فحلّ قتلهم وسلخ جلودهم وتعذيبهم والتمثيل بجثثهم في مراكز الاعتقال.
ما الذي يجعل سوريون يطالبون بالتعذيب حتى الموت لسوريين مثلهم، بل ويدعون أنهم لو كانوا محل الجلادين لمارسوا مثلهم هذه الأساليب، وهو ما تظهره تعليقاتهم في وسائل التواصل الاجتماعي، بالمطالبة بالمزيد من الإهانة والتعذيب والقتل؟ التبرير الوحيد أنهم ومعهم الجلادون في حالة دفاع عن النفس!! أما ماذا يكون هذا الدفاع عن النفس، عندما يكون المعتقل مكبل اليدين والقدمين ومطمش العينين وجسده مثخن بالجراح، هل يهددُ الجلاد؟ وترى هل يشكل الأهالي الآمنين في بيوتهم تهديداً للنظام، حتى يعاقبوا بالبراميل المتفجرة؟
التهديد كذريعة، استخدمت في مجازر الإبادة الجماعية، فكان القتل بالجملة مسموحاً، والأصح بطولياً، وسواء اعتبروا حشرات أو حيوانات، فمرشحون للقضاء عليهم بمختلف الوسائل، الصفة الإنسانية نزعت عنهم، ما يحل قتلهم وتسميمهم وحرقهم ودعسهم بالأقدام. إذ لا هوية إنسانية للقتيل، وفي الحروب سيجد القتل مجالا رحباً، طالما أن الإنسانية أصبحت خارج نطاق المنطق بأنواعه.
كيف ينظر الجلادون إلى الضحية، حتى يبيحوا لأنفسهم استخدام هذه الأساليب؟ لا يعدم المجرمون سبباً أو أسباباً، ففي اختلاف الأيديولوجيات ذريعة لتصفية الطبقات المندحرة، وتعليق رجال العهد البائد على المشانق. وفي الدين ذريعة لقتل حملة الدين أو المذهب المختلف، تكفيرهم ينزع عنهم الصفة البشرية، ما يبيح إرسالهم إلى جهنم، بأساليب جهنمية، فيستعملون السكاكين في جز أعناقهم والتشنيع بهم ، وقتل الأطفال أمام عيون أمهاتهم، واغتصاب النساء أمام رجالهم، كنوع من التعذيب الدنيء قبل الاجهاز عليهم.
فلنتصور أن سوريين اعتبروا سوريين مثلهم عاشوا معهم في وطن واحد، حشرات تستحق القتل، أي أنهم ليسوا بشرا، أو جراثيم حسب تشخيص الرئيس الطبيب، أي يجب القضاء عليهم. سواء كانوا من دين واحد، أو مذهب مختلف، مع أن الأديان والمذاهب تحرم القتل… لكن ماذا لو كان القتلة بلا دين وغير مؤمنين، هل الإلحاد يبرر القتل؟ وكأن الملحد إذا كان بلا دين، فهو بلا أخلاق.
فجع السوريون بأساليب التعذيب التي لا يمكن تصورها، حتى أن كثيرين لم يصدقوها من فرط وحشيتها، اعتقدوا انها من أكاذيب ومبالغات الثوار والناشطين، بينما الموالون للنظام كانوا يعرفون أنها صحيحة، وبالنسبة إليهم كانت تشفي غليلهم من خصومهم، وطالبوا بإيقاع أشد العقوبات عليهم، والتنكيل بهم، وثمة من طالب منهم بالقتل الجماعي، مثلاً بتدمير بلدة أو قرية بالكامل، واعتبروا البراميل المتفجرة عقاباً سماوياً لأنها تسقط من السماء، وباركوها من ناحية أنها قليلة التكلفة. يحسون أنهم في مأمن منهم، ما داموا يتساقطون أمواتاً.
وليس من الغريب، أن يشيح مثقفو النظام بوجوههم عن قصص التعذيب والقتل، يدعون أنهم لا يعرفون، وبما أنهم لا يعرفون، فالجرائم لم تحصل. وإذا اضطروا للتعليق على القتل العشوائي والتعفيش الجنوني، فليست أكثر من تجاوزات واردة في الفوضى، ليس بوسع السلطة ضبطها؛ إنها الحرب.
طبعاً، لا جدوى من سؤال المثقفين، فهم العنصر المنحط في هذا الدائرة. ولم يكن من المبرر وصفهم بالمثقفين، إلا لأنهم يدعون الثقافة.
أما الذي جعل القتل ممكنا، فهو أن السوريين اتهموا بعضهم بعضاً بأنهم سنة وعلويون وشيعة ومسيحيون، مؤمنون وعلمانيون، معارضون وموالون، أصوليون وإرهابيون… فحللوا القتل والخطف والسجن والتعذيب. لن تنتهي هذه الحرب إلا بعد الانعتاق من الدكتاتورية، وإدراك أنهم سوريون، مهما تكن طوائفهم ومذاهبهم، علمانيين كانوا أو مؤمنين أو ملحدين.