كانبيرا – لندن – الناس نيوز ::
بدأت المملكة المتحدة تطبيق اتفاق التجارة الحرة مع كل من نيوزيلندا وأستراليا، ما اعتبره مراقبون أنه “أولى ثمار الطلاق مع الاتحاد الأوروبي (بريكست)”، لكن العائد من الدولتين لا يُعوض خسارة السوق الأوروبية، فيما اعتبرت وسائل إعلام بريطانية أن الاتفاق يحمل أضراراً عدة، خصوصاً لدى العاملين في الإنتاج الحيواني والزراعي.
واعتباراً من الخميس 1 يونيو، تُعفى كل البضائع البريطانية المصدرة إلى نيوزيلندا وأستراليا من الرسوم الجمركية. كما تُفتح أسواق الدولتين أمام شركات المملكة المتحدة العاملة في قطاعات مختلفة، إلى جانب إزالة جميع العوائق التي تعترض التجارة الإلكترونية بين الدول الثلاث، وتذليل القيود لتسهيل هجرة العمالة.
وبحسب رأي محللين، تحمل الاتفاقيتان رسائل سياسية واقتصادية، أكثر من منافعهما الحقيقية، كما تفتحان باب التساؤلات بشأن مصير مفاوضات تخوضها لندن مع عواصم أخرى حول العالم لذات الغرض، وعلى رأسها واشنطن التي يزورها رئيس الوزراء ريشي سوناك الأسبوع المقبل.
منافع وأضرار
وتتوقع تقديرات حكومية بريطانية أن تساهم التجارة الحرة مع الدولتين في رفع الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة تقارب 0.08% بحلول عام 2035، وذلك من خلال زيادة التبادل التجاري مع أستراليا بنسبة 59%، ومع نيوزيلندا 53%، لتصل الحصيلة لحوالي 2.3 مليار جنيه إسترليني.
وتفتح الاتفاقيتان أيضاً أسواق جديدة للعمل أمام الشباب البريطاني، حيث من المتوقع أن يرتفع الحد الأعلى لعمر المتقدمين للهجرة إلى الدولتين من 30 إلى 35 عاماً اعتباراً من يوليو المقبل، فيما سيصبح بإمكان مواطني المملكة المتحدة الإقامة 3 سنوات متتالية في الدولتين دون الحاجة إلى تأشيرة عمل، اعتباراً من يوليو 2024.
وبينما تتلهف قطاعات الشحن، والطاقة المستدامة، والخدمات، والعقارات البريطانية، لتطبيق الاتفاقيتين وقطف فرص الاستثمار في الدولتين، وخاصة عقود القطاع العام التي قد تصل لـ10 مليارات جنيه سنوياً، يعيش مزارعو المملكة المتحدة قلقاً من منافسة المنتجات الحيوانية والنباتية، النيوزيلندية والأسترالية.
وكان وزير التجارة الدولية نايجل هادلستون، أكد أن الحكومة لن تتخلى عن المزارعين المحليين، حيث تتضمن الاتفاقيتان بنوداً لحماية الأسواق البريطانية، ومنع إغراقها بالسلع النيوزيلندية والأسترالية، إضافة إلى أن إلغاء الرسوم الجمركية على المنتجات الحيوانية، والنباتية سيكون تدريجياً من أجل طمأنة الصناعة الوطنية.
رسائل مبطنة
عندما أبرمت المملكة المتحدة الاتفاقيتين في ديسمبر 2021، قال وزير البيئة البريطاني حينها جورج يوستيس، إن “الاتفاقيتين ليستا جيدتين كفاية”. ورغم تغيّر حكومة لندن 3 مرات منذاك، إلا أن حزب “المحافظين” أصر على إتمامهما. وفي ذلك 4 رسائل “مبطنة”، بحسب رأي مدير معهد البحوث الاقتصادية صادق الركابي.
وقال الركابي في حديث لـ”الشرق”، إن الحكومة البريطانية تُريد أن توصل للعالم عبر الاتفاقيتين، أنها جادة في إبرام اتفاقات تجارة حرة بعد بريكست.. وتستهدف خلال ذلك دول عدة في الشرق الأوسط، التي أتمت وزيرة الأعمال البريطانية كيمي بادنوش، زيارة لها أخيراً لبحث تعزيز العلاقات الاقتصادية.
والرسالة الثانية للاتفاق مع نيوزيلندا وأستراليا، برأي الركابي، أن “لندن ماضية في تعزيز علاقاتها مع الدول المجاورة للصين، ضمن استراتيجية غربية لمحاصرة نفوذ بكين في آسيا، عبر نيودلهي أولاً، ومن ثم طوكيو، وبقية دول مجموعة التعاون والشراكة عبر المحيط الهادئ”.
وبشأن الرسائل الداخلية، يوضح مدير معهد البحوث الاقتصادية، أن “حكومة سوناك تبحث عن إنجازات وسط حالة من الفشل تعيشها في مجالات أخرى”. كما أنها “لا تزال تُعاني من الفضائح المتتالية لقادة ونواب من الحزب، منذ استقالة رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون نتيجة لفضيحة حفلات كورونا”.
ولفت الركابي إلى أن “الاقتصاد البريطاني يُعاني بسبب الخروج من الاتحاد الأوروبي، وما تلاه من تداعيات جائحة كورونا، ومن ثم ارتفاع معدلات التضخم عالمياً”، موضحاً أن “الاتفاقيتين قد تحملان بعض فرص الاستثمار للقطاع الخاص، كما تساعدان بعض القطاعات على تجديد نشاطها بشكل نسبي”.
وخلص الركابي خلال حديثه لـ”الشرق”، إلى أن “الاتفاقيتين تحملان منفعة رمزية أكثر منها واقعية، إذ لم تعترضهما كثير من العثرات، لأن كلاً من كانبيرا و ويلينجتون ضمن الكومنولث البريطاني. كما كانت الدولتان تتمتعان بمزايا اقتصادية كبيرة مع المملكة المتحدة قبيل الدخول في إطار تجارة حرة رسمية”.
الاتفاق مع أميركا
وفي حين تدخل الاتفاقيتان حيّز التنفيذ، ظن محللّون أن زيارة سوناك لواشنطن الأسبوع المقبل، ستعمل على تحريك مفاوضات التجارة الحرة بين بريطانيا والولايات المتحدة، لكن متحدث باسم “داونينج ستريت” أكد عدم إدراج الملف على جدول الزيارة.
وقال مكتب رئيس الوزراء البريطاني إن سوناك لن يخوض مع الرئيس الأميركي جو بايدن خلال اللقاء في مفاوضات التجارة الحرة بين بلديهما، وذلك “ليس لأن الدولة لم تعد مهتمة بتوسيع العلاقات الاقتصادية مع حليفتها الاستراتيجية، وإنما إدراك مسبق بأن الظروف لم تنضج بعد إلى حد الخوض في هذه المفاوضات”.
وكان حزب “المحافظين” تعهّد خلال فترة جونسون، بإبرام اتفاق تجارة حرة مع الولايات المتحدة نهاية عام 2022، إلا أن وصول بايدن إلى البيت الأبيض لم يساعد على ذلك، حتى أن واشنطن وقفت إلى جانب بروكسل في خلافها مع لندن بشأن بروتوكول إيرلندا الشمالية في اتفاق “بريكست”.
ورغم تسوية سوناك للخلاف مع الاتحاد الأوروبي وتوقيعه لـ”إطار وندسور” مطلع العام الجاري، إلا أن واشنطن لم تبدِ اهتماماً بفتح صفحة التفاوض مع لندن نحو اتفاق للتجارة الحرة، وهو ما تُحمّل المعارضة البريطانية مسؤوليته لحزب المحافظين، وتتهمهم بـ”الكذب” في وعودهم الانتخابية.
وفي مقابلة مع صحيفة “فاينانشيال تايمز”، قال المتحدث باسم حزب العمال للشؤون التجارية توماس سيموندز إن “المحافظين فشلوا في تنفيذ وعد قطعوه في انتخابات 2019 بإنجاز اتفاق تجارة حرة مع واشنطن قبل نهاية 2022، معتبراً أن “حديثهم عن الظروف غير المواتية الآن، يؤكد بوضوح أن الحزب الحاكم تجاوز ذلك الوعد تماماً”.
صعوبات وبدائل
في السياق، نقلت وسائل إعلام محلية عن المتحدث باسم “داونينج ستريت”، أن التبادل التجاري بين لندن وواشنطن يزيد عن 279 مليار جنيه إسترليني. كما تحرص الحكومة البريطانية على زيادة هذه الأرقام عبر اتفاقات اقتصادية مع كل ولاية أميركية بشكل منفرد، بما ينسجم مع مصالح الطرفين.
ويبدو أن الاتفاقات المتفرقة هي السبيل أمام بريطانيا لتعزيز التبادل التجاري مع الولايات المتحدة، فهي تُجنبها إجراءات حمائية تتبناها إدارة بايدن لدعم الاقتصاد الوطني، وتجنبها أيضاً القبول بشروط واشنطن الصعبة لإطلاق تجارة حرة بين الدولتين، وإحداث تغيرات كبيرة في هيكل الاقتصاد البريطاني.
وبحسب المحلل الاقتصادي أسلم بوسلان، ليس فقط الولايات المتحدة هي من تتجنب الخوض في اتفاق تجارة حرة مع المملكة المتحدة، فالبريطانيين أيضاً ليسوا مستعدين لمثل هذه الخطوة في ظل الشروط الأميركية الصعبة والمعقدة المرافقة لها، والتي قد تحمل تداعيات كبيرة على قطاعات عدة في الاقتصاد البريطاني.
ويوضح بوسلان في حديث لـ”الشرق” أن الولايات المتحدة تُريد من بريطانيا فتح قطاعات خدمية مثل الصحة أمام الشركات الأميركية للاستثمار فيها، وهذا قد يُلحق ضرراً بمستوى الخدمات المقدمة للبريطانيين، كما يُغير من سياق المعايير السائدة في العلاقة بين الدولة والسكان بمثل هذه القطاعات.
ويلفت المحلل الاقتصادي إلى أن المعايير البيئية والصحية الأميركية المتبعة في الخدمات، والتجارة، والنقل، والزراعة، والإنتاج مختلفة عن تلك السائدة في المملكة المتحدة. وقال إن “قبول لندن بها يعني التخلي عن مستويات عالية من الجودة تتمتع بها الصناعة البريطانية، وتواكب فيها شروط التجارة مع الاتحاد الأوروبي”.