د . أمير سعادة – الناس نيوز ::
حادثة الكحالة الأخيرة في العاصمة اللبنانية ، والتي وقعت في 9 أغسطس/آب 2023، انقلاب شاحنة سلاح تابعة لحزب الله الشيعي أداة إيران ، لها دلالات كبيرة.
فقد جاءت بعد أسبوع واحد فقط من اغتيال مسؤول عسكري سابق في القوات اللبنانية واندلاع مواجهات مسلحة دامية في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين.
معظم من كتب عنها كان همه الوحيد إما الدفاع عن سلاح حزب الله الذي سقط مع الشاحنة في منطقة الكحالة، أو مهاجمته والمطالبة بمصادرته.
ولكن هناك مستوى آخر لما حدث يومها، يتمثل في زعامة الشارع المسيحي ( الماروني تحديداً ) ومحاولة الشيخ سامي جميل أستغلال ل ما حدث لنفض الغبار عن حزبه، حزب الكتائب اللبنانية.
الجميل كان وحتى الأسبوع الماضي متواضعاً في المعادلات المسيحية، لا وزن كبيراً له ولا كتلة نيابية وازنة.
ورث الزعامة عن أبيه، الذي ورثها بدوره عن شقيقه الرئيس المغدور بشير جميل يوم اغتياله سنة 1982 ، التي نفذها حبيب الشرتوني ، والذي هربه نظام الأسد وخبئه في إحدى قرى محافظة حمص .
والرئيس بشير نفسه ورث زعامته عن أبيه، الشيخ بيار جميل الجد ، مؤسس الكتائب اللبنانية.
ولعل بشير الجميل هو الوحيد بين زعماء لبنان الذي حقق زعامة لنفسه تفوق بأضعاف مضاعفة الزعامة التي كان يتمتع بها والده، أوجدها من خلال حمل السلاح للدفاع عن “لبنان المسيحي” أولًا ، ولبنان الوطن تالياً ، مع مطلع الحرب الأهلية اللبنانية.
دافع عن المسيحيين يومها وعن مكتسباتهم التاريخية في وجه تيار من المسلمين الملتفين في حينها حول منظمة التحرير الفلسطينية وزعيمها الراحل ياسر عرفات.
أما بقية زعماء لبنان التقليدين الذين وصلوا إلى ما هم عليه اليوم بالوراثة، فلا يمكن مقارنتهم مع آباءهم وأجدادهم، لا من حيث الحضور أو المنجز ولا حتى الشعبية أو الكاريزما.
وهذا ينطبق على سعد الحريري الذي نصب نفسه “بيّاً” للسنة خلفاً لأبيه، وتمام سلام الذي ورث الزعامة عن أبيه، وكان آخرهم تيمور جنبلاط الذي “انتُخب” رئيساً للحزب التقدمي الاشتراكي مطلع هذا الصيف، خلفاً لأبيه وجده المؤسس المعلم كمال جنبلاط.
نحن هنا نحلل ونسرد هنا معطيات واقعاً سابقاً وراهناً ومستقبلاً ، نسيب ونخطئ ، ربما .
أما الجيل الثالث من أبناء الجميل (سامي ابن الرئيس أمين ونديم ابن الرئيس بشير) فهم زعماء بالاسم فقط، يحملون لقب “الشيخ” المتعارف عليه لدى الموارنة، ولكن لا منجز سياسي لهم كعلامة فارقة اهم ، ولا وزن أو دور فعلي في رسم سياسات الطائفة المارونية.
في العقدين الماضين، هيمن على الشارع الماروني قطبان، هما التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية، وكلاهما كان بقيادة أشخاص صنعوا أنفسهم بأنفسهم ولم يرثوا الزعامة عن أحد: العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع.
زعامة عون وجعجع لم تُدرس بشكل علمي بعد وهي حالة فريدة في تاريخ لبنان لأنهما مستقلين من الناحية العشائرية والعائلية، لا بيت سياسي عريق يقف خلفهم كما هو الحال مع أبناء الجميل وفرنجية وشمعون.
ولم تتكشف مصادر تمويلهما ( اعترفات وان كان الجميع يشير الى بلدان إقليمية او دولية ) عكس حزب الله الذي اعتمد على إيران ( هو صنيعة الحرس الثوري بشهادة واعتراف حسن نصرالله ) أو رفيق الحريري الذي اتكأ على السعودية.
والأهم أن كلاهما كان معبوداً في شارعه، يتبعونهم حتى الموت حتى لو اختلفوا معهم.
من المذهل حقاً كيف استطاع ميشال عون إقناع أنصاره من المسيحيين، وكانوا كثر يومها، بدعم حزب الله عند توصله مع حسن نصر الله إلى اتفاقية مار مخايل في فبراير/شباط 2006 ( البطريركية المارونية وافقت حرصاً على كرسي الرئاسة الماروني ) .
الكثير منهم لم يؤمنوا بصواب هذا الحلف، ولكن قلّة قليلة فقط رفعت الصوت واعترضت. أما الغالبية العظمى من أنصار عون فقد قالوا “أمين” ومضوا خلف حزب الله حتى أوصل “الجنرال” إلى قصر الرئاسة عام 2016.
وكانت الأعجوبة في مسيرة سمير جعجع أيضاً بعد إطلاق سراحه سنة 2005، وكيف تمكن من العودة إلى الزعامة المارونية بسرعة البرق، مع جيل جديد لا يعرفه ولم يعاصر شيء من الحرب الأهلية التي لمع بها “الحكيم” نجماً.
سامي جميل لا يملك شيئاً من هذا السبيل، بالمطلق، وهذا ما يفسر استغلاله الرهيب لحادثة الكحالة بهدف ضح الدماء في عروق حزب الكتائب الجافة.
تاريخياً كانت منطقة الكحالة تابعة لحزبه، ولكن شهيد حادثة 9 أغسطس/آب 2023 لم يكن كتائبياً بل عونياً من أنصار ميشيل عون وصهره المتهم بالفساد جبران باسيل.
صحيح أن المنطقة منطقتهم ولكن ثأر الدم ليس لهم. ولكن الجميل استثمر بالحادثة واستخدمها للعب على الوتر الطائفي، قائلاً إن المسيحيين مهددين في وطنهم وأن عدوهم الأول والأخير هو حزب الله.
تفاعل المسيحيون مع هذا الكلام، ولكنهم يعلمون جيداً في سريرتهم أن سامي الجميل لا حول ولا قوة له، لا يمكنه تسليحهم لمواجهة ، أداة إيران العسكرية ، كما فعل جده ضد عرفات قبل قرابة النصف قرن.
حادثة الكحالة جاءت على طبق من ذهب بالنسبة للجميل، الذي وجد نفسه وبفضلها متصدراً المشهد المسيحي، ولو بشكل مؤقت.
ولكن ماذا بعد؟ هو قال إن اليوم لن يكون كما سبقه وإنه الآن في معركة وجود ضد حزب الله.
كيف سيقود الجميل الحفيد هذه المعركة، من دون سلاح ومال وأي من مؤهلات جده الاستثنائية يملك ؟ الفرص التاريخية تأتي بسرعة، وإن لم يتم استثمارها فوراً، تذهب بسرعة أيضاً.