[jnews_post_author]
كم هو مدهش تأمل الهوة بل الفرق الشاسع بين منطق التخطيط الاستراتيجي والبرامج السياسية الدارجة حول الإقليم شرق المتوسط بين القوى المحلية وبين التخطيط الاستراتيجي للقوى الدولية حول مستقبل شرق المتوسط.
ففي حين تغرق محافل التفكير والتخطيط الاستراتيجي لدول الإقليم بالتصورات العقائدية وفي حين أنها لا تزال غارقة في ذات المقاربة العقائدية والتراجعية التي سادت طوال القرن الماضي على مستوى التخطيط والممارسة، فإن العالم وقواه المؤثرة تحاول استخلاص الدروس ونقل المنطقة إلى سياقات جديدة.
في أوساط استراتيجية عديدة كما في مراكز الأبحاث الروسية منها والأوروبية والأمريكية، يعود بشكل متواتر الحديث عما بعد سايكس بيكو في شرق المتوسط. ويوقظ هذا الحديث مجمل رواسب المقاربات الاستشراقية التي جاءت وأسست لهذا الاتفاق. وتساهم عدد من مراكز الأبحاث في الدول الإقليمية في هذا النقاش، من منطق أن شعوب وطوائف شرق المتوسط لم تكن يوما قادرة على إدارة شؤونهم إلا تحت هيمنة إحدى الدول الكبرى في الإقليم.
وهكذا نعود الى سايكس بيكو جديد.
بالمعنى الدقيق للكلمة فان اتفاقات سايكس بيكو هي التي نجمت عن لقاءات هذين الدبلوماسيين البريطاني سايكس والفرنسي بيكو 1916، المكلفين بوضع مبادئ لتقسيم شرق المتوسط (أو ما تم التعارف عليه لاحقاً باسم الهلال الخصيب)، في حال إنجاز الهزيمة الوشيكة لألمانيا وحليفتها الإمبراطورية العثمانية، في الحرب العالمية الأولى، حيث تم في هذه الاتفاقات تحديد ملامح أولية لتوزيع النفوذ ورسم المصالح المشتركة بين الدولتين واللتين كانتا تعتبران القوتين العظميين في ذلك الزمان.
لم تضع هذه الاتفاقات سوى رؤية أولية للمنظومة السياسية لدول المنطقة، لكنها أصبحت عملياً الأساس القانوني والسياسي والاستراتيجي للشرعية الدولية وللعلاقات الدولية شرق المتوسط فيما اعتمده الاتفاق من حقوق وأسسه من حدود لمنظومة عيش مشترك شرق الأوسط. في ذلك الوقت، كان الاتفاق ملزماً قانوناً لبريطانيا وفرنسا، وإن كان مشروطاً بهزيمة الحلفاء للعثمانيين.
ولكن وبالرغم من كونه اتفاقاً سرياً، فإنه يصبح في حال تحقق انتصار هاتين الدولتين ذا قوة شرعية ويكتسب طابع الملزم بموجب القانون الدولي بصفتهما الدولتين المنتصرتين على الدولة ذات الولاية بموجب القانون الدولي، مع التأكيد على الطابع الملزم لهذا الاتفاق.
لم يكن اتفاق سايكس بيكو سوى عنصر واحد من عناصر الدبلوماسية السرية المتواصلة إبان الحرب العالمية الأولى بخصوص العديد من القضايا الناجمة عن انهيار الإمبراطوريات الخمس. ولقد ألحقت بهذه الاتفاقات بشكل تراكمي اتفاقيات تفصيلية عديدة كان يتم مواءمتها مع تطور الأحداث على الأرض. إذ ما لبثت أن استكملت اتفاقية 1916 باتفاقات قوتين انضمت إلى بعضها القوتين الأخريين الشريكتين في الحرب واللتين كانتا مهتمتين بالمنطقة، وهما روسيا وإيطاليا.
التوجه العام للدولتين المتفاوضتين كان يهدف إلى تدبير أمور الأراضي التي تخرج بشكل متواتر عن السلطنة العثمانية من عملية تفككها المتواصل منذ أوائل القرن الثامن عشر. وكان الترتيب أن يتم تقسيمها إلى مناطق تحت النفوذ البريطاني والفرنسي، مع تحول فلسطين إلى كيان دولي. مستجيباً بذلك لما كان يمثل آنذاك المصالح الاستراتيجية البريطانية والمطالب التاريخية لفرنسا بموقع خاص في بلاد الشام، على أن يكون لبريطانيا بلاد ما بين النهرين وجسر بري إلى البحر الأبيض المتوسط، وأن يكون لفرنسا لبنان والفرع الغربي من الهلال الخصيب.
مع تطور الحرب تشكل الواقع العملي على الأرض بدل التشكل العملي النهائي للمنظومة الإقليمية شرق المتوسط. ذلك أن انتصار الجمهورية التركية الفتية بزعامة أتاتورك في المعركة الكبرى للشنق- قلعة وتكريس وحدة الأمة التركية، قد أدت الى تعديل بعض عناصر هذه الاتفاقات لصالح تركيا بما يسمح لها بالتمتع بموقع أفضل كدولة مهزومة في الحرب لكنها تمكنت من الانتصار والحفاظ على حدودها، الأمر الذي اضطر الحليفين الأساسيين إلى أخذ بعض مطالبها بعين الاعتبار.
في معاهدتي سيفر (1920) ولوزان (1923)، تخلت تركيا عن جميع مطالبات الإمبراطورية العثمانية خارج حدود تركيا الحديثة، لصالح كل من بريطانيا وفرنسا.
ونجم عن ذلك حق بريطانيا وفرنسا قانوناً بالتعامل مع هذه الأراضي. وبالرغم من الاتفاقات الأصلية لم تُحدد حدود لكل من المناطق المعنية، إلا أن ذلك قد تم في وقت لاحق خلال سلسلة من الاتفاقيات الموقعة في 1922 و 1923 والتي حددت حدود فلسطين (بما في ذلك ما يعرف الآن بالأردن) ولبنان وسوريا والعراق. كما شملت اللاحقة للاتفاق الإطاري لسايكس-بيكو اعترافاً بالالتزامات البريطانية مثل وعد بلفور والمراسلات مع الأسرة الهاشمية.
وبالرغم من أن موافقة عصبة الأمم على هذه الاتفاقات لم تكن ضرورية لأن هذه المناطق ناجمة عن انتصار الحليفين وعن تنازل تركيا عن هذه المناطق فلقد وافقت عصبة الأمم على حدود الأقاليم، مما كرّس بشكل إضافي الشرعية الدولية لهذه الاتفاقات.
وبذلك أصبحت الصورة العامة للكيانات الدولية للمنطقة على الشكل التالي:
فلسطين على كلا ضفتي الأردن تحت الانتداب البريطاني (نيابة عن عصبة الأمم).
في اتفاق بين لويد جورج وكلينسو، تم نقل الموصل وشمال العراق من الفرنسيين إلى منطقة السيطرة البريطانية وتم دمجها في المملكة العراقية.
في إطار الاتفاق نفسه، منحت بريطانيا فرنسا حرية في المنطقة التي حصلت عليها، والتي استخدمها الفرنسيون لتوسيع مساحة لبنان على حساب ما تبقى من منطقة نفوذهم في سوريا ومن ثم تقسيم سوريا إلى عدة دول.
أنشأت بريطانيا إمارة مستقلة للملك عبد الله بن الحسين وفصلتها بعد ذلك عن فلسطين الانتدابية.
تم منح مقاطعة إسكندرون-هاتاي، على الحدود السورية التركية وضعًا خاصًا، وتنازلت فرنسا عنها في نهاية المطاف لتركيا عشية الحرب العالمية الثانية.
بذلك أصبحت الدول العربية التي أنشئت بهذه الطريقة – العراق وسوريا والأردن ولبنان – جزءاً من نظام أكبر بكثير من الدول العربية، يتجاوز أبعاد الاتفاق الأساسي ولكنه يبقى في إطاره.
ومن المفيد أن نلاحظ هنا موضوعين يبدوان جوهريين في السياق الراهن.
أولهما: الاستحقاق التاريخي لانهيار الإمبراطورية العثمانية: بالرغم من أن الخطاب القومجي أو الديني الدارج لا يزال يقارب مسألة انهيار الإمبراطورية من المنطق البائس لنظرية المؤامرة, من الهام جدا أن ندرك أن انهيار الإمبراطورية العثمانية كان مجرد حلقة من حلقات الاستجابة البشرية لاستحقاقات الاقتصاد البرجوازي ونشوء الدولة القومية الحديثة كحدث تاريخي كوني، تمثل بالقضاء النهائي على الإمبراطوريات المركزية الاقطاعية المحتضرة. فلنتذكر هنا أن الحرب العالمية الأولى شكلت نهاية الإمبراطوريات في النظام الدولي، حيث تم القضاء في نهاية الحرب على خمس إمبراطوريات كبرى معاً ألا وهي الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية الروسية والإمبراطورية الهنغارية النمساوية والإمبراطورية العثمانية والأهم هو نهاية الإمبراطورية البريطانية.
ثانيهما: الهوية الوطنية ما بين أمة أم منطقة جغرافية: تسمح لنا قراءة المراسلات التي سبقت والتي تلت الاتفاقات المتعلقة بنهاية الحرب العالمية الأولى، باكتشاف فرق جوهري في تعامل الدولتين المنتصرتين وفي موقف المجتمع الدولي – عصبة الأمم – مع الكيانات التي نجمت عن الانهيار الحتمي للإمبراطورية العثمانية في ذلك الحين.
الدول التي تبلورت فيها الهوية الوطنية والشعور القومي بشكل مبكر مثل مصر واليونان وبلغاريا وإيران وتونس والمغرب إلخ.. والتي خاضت نضالا شرسا لانتزاع استقلالها من براثن الإمبراطوريات المنهارة قبل خسارة هذه الإمبراطوريات للحرب، كان ينظر إليها على أنها دول قومية تتمتع باللحمة الوطنية وبالعصبية القومية، وبذلك لم توضع هذه الدول تحت الانتداب المباشر بل اعتبرت كل منها دولة أمة Nation State ، ولكنها اعتبرت دولة أمة قيد البناء.
في حين أن المناطق التي تبعثرت وانفلتت عن السياق العثماني بفعل انهيار الإمبراطورية وهزيمتها في الحرب العالمية الأولى، فلقد جرى التعامل معها كشظايا للانهيار العثماني لا ككيانات قائمة. لقد تمت مقاربة هذه المناطق بشكل مختلف تماماً ونظر إليها وجرى التعامل معها عملياً كمناطق جغرافية وفيها كثقافات غير متمايزة وعلى أنها مصطلحات تاريخية وليس كدول-أمة Nation-States، بل كمناطق تقطنها شعوب وقوميات وطوائف غير متبلورة تعيش في مناطق لها تسميات جغرافية لأراض دون أن تكتسب مفهوم الدولة الامة.
وحقيقة الأمر أن نشوء الدولة الوطنية الحديثة كان دوما محكوما بشكل أساسي بحقائق الجغرافيا الاقتصادية. وكان نجاح هذه الدولة أو تلك بالبقاء والاستمرار لا يقوم على مقدار العصبية لأهلها بقدر ما قام دوما على قدرتها على فرض وتبرير وجودها في الجغرافيا الاستراتيجية والاقتصادية الإقليمية المحيطة بها.
وحقيقة الأمر أيضاً، أن الدول التي نجمت عن هذه الاتفاقات لم تكن تعكس خريطة العصبيات القومية والإثنية لشرق المتوسط. بل إن بعضها لم تنشأ بشكلها الراهن إلا نتيجة دور وظيفي استراتيجي مناط إليها في ظل تقسيم العمل الاستعماري والمتطلبات المفترضة للدولتين المنتدبتين. من هذا المنظار جاءت تقسيمات سايكس بيكو تقسيمات وظيفية. ولم تكن الجغرافيا الطبيعية والاقتصادية وبالتالي لم تكن قضية الديمومة والبقاء لهذه الدول هي الهاجس المركزي في تقسيم العمل بين فرنسا وبريطانيا.
لم تكن سوريا يوماً كياناً مفتعلاً من الناحية التاريخية. بل كانت كيانا تفرضه الجغرافيا الاقتصادية والإثنية لسوريا كما ترسخت عملياً. فلقد استتبت علاقات الاقتصاد السياسي والجغرافي لسوريا تاريخيا، حيث كانت الإسكندرونة الميناء الطبيعي لحلب، والميناء الطبيعي لوسط سوريا هو طرابلس، وأما الميناء الطبيعي لدمشق فلقد كان في حيفا. ففي يحين لم تصعد بيروت إلا بعد انقطاع حيفا، ولم تصعد اللاذقية إلا بعد الحرب الأهلية في لبنان. كما لم تكن الأردن إلا امتدادا للعمق لدمشق كواحة للعمران بالنسبة للجزيرة العربية، ولم تكن الموصل سوى توأم وظيفي لحلب في الجغرافيا الاقتصادية للطريق نحو الأستانة – إسطنبول.
لكن، لدى دراستنا لحيثيات قضية الجولان إبان عمليات السلام، كنا ملزمين بالعودة للاتفاقات المنبثقة عن سايكس بيكو والتي أبرمها ضباط من الدرجة الثانية في المستعمرات البريطانية والفرنسية، من أجل رسم الحدود بين منطقة الانتداب البريطاني والفرنسي في الجولان عامي 1922- 1923. شكلت هذه الاتفاقات مصدر الشرعية في النقاش مع الإسرائيليين واساساً في تحديد الحقوق. ونستطيع القول هنا إنه، لا الجغرافيا الاقتصادية، ولا الهوية، ولا العصبية الإثنية، ولا الدينية، ولا الوطنية ولا الجغرافيا السياسية كانت هي الأساس في رسم حدود تلك الدول.
ومن الطريف أن نتأمل هنا المنطق المختلف تماما في رسم الأولويات لكل من فرنسا وبريطانيا. بالنسبة لبريطانيا كقوة استعمارية بحرية هاجسها الأساسي الاقتصاد والتجارة، كان هاجس المفاوض البريطاني هو ضم أكبر ما يمكن من الموارد لمناطق نفوذه، وتحقيق جغرافيا اقتصادية مصغرة قابل للحياة في فلسطين والعراق وكانت الأردن بالنسبة له ضرورة لوجستية لإيصال موارد العراق بما في ذلك نفطه المكتشف لاحقاً الى البحر المتوسط، ناهيك عن متطلبات وعد بلفور والوعد المعنوي للشريف حسين. في حين كان هاجس المفاوض الفرنسي بصفته ممثلا لتقاليد استعمارية فرنسية يغلب فيها منطق الاستعمار البري والنفوذ الثقافي والثقافي ويستند إلى ضم أكبر قدر من الإثنيات المتعاطفة إلى مناطق نفوذه.
رغم ذلك فلقد فوجئت السلطات في باريس حين تمكنت الكتلة الوطنية السورية من أن تبدي مستوىً عالياً من الروح الوطنية السورية والتلاحم المجتمعي بحيث تمكنت حفنة صغيرة من الزعماء الوطنيين الحقيقيين السوريين من قطع الطريق على ما كان متفقاً عليه من تقسيم سوريا الى أربع جمهوريات أو أقاليم.
وحين فشل مشروع التقسيم الفرنسي، اجتمع المندوب السامي الفرنسي في بيروت بعدد من ممثلي الطوائف في سوريا ليبلغهم أن فرنسا قد قررت الخروج من سوريا وأنها قررت أن لابد من منح شاطئ على المتوسط للداخل السوري.
كان من المفترض أن تشكل هذه الوقفة الوطنية السورية برعما جوهريا لتثبيت العصبية الوطنية السورية وأساساً لإنتاج التحول التاريخي لسوريا من شعب إلى دولة – أمة. لكن سرعان ما تداخلت رياح الانتماء الديني والطائفي والقومي العربي لتذيب العصبية القومية السورية وتتسامى بها إلى تصور طوباوي ما فوق وطني.
لم تكن التعبيرات القومية والإسلاموية والأممية اليسارية إلا تسامياً أسطوريا صار نافياً بحد ذاته للوطنية المؤسسة للدولة – الأمة. وفي حينه ساهمت القضية الفلسطينية في تكريس مفهوم محدد أن لا مستقبل “لنا” للعرب إلا باستعادة الوحدة التي كانت قائمة قبل ألف عام إبان الدولة العباسية أو عودة الخلافة الإسلامية التي كان آخر نموذج لها هو الدولة العثمانية. حصل الانقطاع هنا. فبدل أن تنتقل النخب الثقافية، في إنشاء عصبيات توافقية على المستويات الوطنية وبدل من تنمية هذا البرعم الوطني بما يتيح بتحويل الدولة الأمة إلى بوتقة للصهر الوطني وبما يتجاوز التقسيم الطائفي الذي كان على وشك التحقق في نهاية الاحتلال الفرنسي والبريطاني، بدل تحويل التقسيم الديني – الطائفي كأساس للعصبيات الجمعية.
لوهلة ما سمحت التجربة الناصرية بجسر الهوة بين المشروع القومي العروبي والمشروع الإسلامي، حيث انجرفت المجتمعات المسلمة عصبية لتنخرط في مشروع قومي تحرري يتجاوز منطق الإسلام السياسي. إلا أنه سرعان ما انهارت وهو أمر لن نخوض به الآن. لكن حقيقة الأمر كانت مختلفة جدا عن الأوهام. فبالرغم من مركزية القضية القومية العربية والقضية الفلسطينية في الخطاب الرسمي والإعلامي، لم تكن هاتين القضيتين إلا بئراً أسطوريا لسرديات التأسيس للأنظمة الشمولية.
يوضح لنا الاستعراض العملي للسياسات الفعلية للدول العربية وللحراكات التي سادت العالم العربي والإقليم، أن القومية العربية والقضية الفلسطينية لم تشكل في أحسن الأحوال أكثر من 10٪ من الجهد العسكري والأمني والدبلوماسي للدولة الوطنية في العالم العربي. وتظهر دراساتنا والأرشيفات التاريخية للجامعة العربية أو للأمم المتحدة أو أرشيفات المفاوضات حول الخلافات بين الدول العربية، بأن اتفاقات سايكس بيكو كان يشيطنها القومجيون والإسلاميون كمصدر مشؤوم وتكريسا للمؤامرة الكبرى على العروبة والدين، فإن هذه الاتفاقات بالذات كانت هي الأساس السياسي والاستراتيجي بل كانت هي الاقنوم المؤسس للشرعية والعصبية بين الدول العربية. كان هذا في الكواليس الدبلوماسية والسياسة الإقليمية أما في الإعلام والتربية فحدث ولا حرج.
سمير التقي