[jnews_post_author]
لا تشكل الصراعات العبثية لحافظ الأسد ضد ياسر عرفات والملك حسين وصراعه ضد صدام حسين وضد أنور السادات وصراع صدام حسين ضد إيران وصراع مصر في اليمن والصراع المصري السعودي والحرب المغربية الجزائرية إلخ،… إلا غيضاً من فيض هائل لهذه الصراعات التي لا يمكن فهمها في إطار الوطنية السورية أو العصبية القومية العربية ولا مصلحة القضية الفلسطينية. وكذا الأمر في قضية العداء ضد تركيا وإيران بما تحمله من تناقض مع الخطاب القومجي أو الإسلاموي المعادي للغرب.
بمعنى آخر، ما إن انهار المشروع القومي العربي بمقوماته العملية الممكنة، وما إن وصل الصراع العربي الإسرائيلي إلى سقفه الاستراتيجي حتى تبدت ملامح ضعف الانتماء الوطني والهوية الوطنية للدولة الأمة في شرق المتوسط.
لم تشكل حرب 1967 ومن ثم وفاة جمال عبد الناصر وانقسام حزب البعث في سوريا والعراق إلا مجرد ملامح لتداعٍ تدريجي طفيف ولكنه تداع مضطرد وذو مغزى لسقف المشروع القومي العربي.
ولم تشكل اتفاقات الكيلو 101 في مصر واتفاقات فصل القوات في الجولان وعودة عرفات إلى الضفة الغربية إلا رسما نهائياً للسقف التاريخي للممكن الاستراتيجي في الصراع العربي الإسرائيلي. وأصبحت حرب التحرير الشعبية وخطابات الجامعة العربية القومجية الوحدوية مجرد إرهاصات للنهاية العملية للحلول الصفرية والأوهام الطوباوية المرتبطة بهذا المشروع.
في خضم هذا التضليل، فات النخب وفاتت الشعوب، أهمية التأسيس وتحقيق عصبية الدولة-الأمة النقيض الجوهري للطائفية والعصبيات الإثنية والطائفية بقدر ما فاتها هاجس التنمية والحوكمة والمهمة الجورية المتمثلة في بناء الأمة عبر عملية صهر طوعي.
ما تكرس كان نقيض ذلك تماماً ففي غياب الوحدة الوطنية بالتراضي والمشاركة، تصبح الدولة الشمولية الضرورة الموضوعية للوحدة الوطنية وتصبح الأساطير الطوباوية والأمجاد العتيدة والوعود باستعادتها بئراً عميقا يشكل لنسغ الاستبداد مبرر وجوده إذ يغرف الاستبداد من هذه الأوهام الثورجية كبديل موضوعي عن شرعيته. وبذلك بقي مشروع الدولة الوطنية للدولة – الأمة أماً يتيمة بين أهلها مثل سيبيريا يتحدث الكثير عنها ولا أحد يرغب في الذهاب إليها.
وكمكمل لهذه الصورة وبسبب فشل بعض الدول في بناء هويتها وتعزيز العصبية القومية للدولة الأمة فإنها لم تستطع بعد أن تبرر وجودها الموضوعي بعيدا عن الدعم الخارجي لوجودها.
في الجغرافيا الاقتصادية لسوريا الكبرى تمت إعاقة الوطنية اللبنانية بترسيخ التبعيات ولصالح تعبيرات ما فوق وطنية وبحجة تحرير قومجية وطائفية معروفة وبدورها أصبحت سوريا والعراق محتلة من قوى طائفية تمعن في تدمير الانتماء الوطني للامة، بحيث إن قضية ضبط وإدارة والحوكمة في الوضع الداخلي في لبنان مثلا أصبحت غير ممكنة دون ضابط خارجي.
فتحتَ ضغوط الانتماءات ما فوق الوطنية اللبنانية وتحت ضغط الصراعات الإقليمية، استمر الصراع في لبنان كجمر تحت التراب بحيث أصبحت الهيمنة الخارجية أداة جوهرية في قمع التناقضات وضبطها عند حد أدنى من مستوى الصراع المفتوح.
أُدخلت سوريا الى لبنان بموافقات دولية وتم القبول بل الإجماع الدولي لاحقا بالهيمنة الإيرانية على لبنان كأمر مسلم به، بل إنه كان أمرا مطلوبا في ظل الفشل الذريع في إنتاج الوطنية اللبنانية. لقد خرجت سوريا من لبنان ثلاث مرات لكن افتقاد أرضية وطنية حقيقة للتوافق اللبناني إضافة للاستقواء بالخارج جعل عودة لبنان للسيطرة السورية الإيرانية أمرا مقبولا بل ومطلوبا ومفهوما دوليا عملت عليه وكرسته قوى دولية عديدة.
يواجه الأردن في ذات الوقت تحدياً بذات المعنى. ففي حين حاولت العديد من القوى زعزعة الركائز الشرعية الأساسية للدولة قام الملك الراحل حسين بشكل مبكر، ومن ثم الملك عبد الله، بشكل مبكر التمركز على تعزيز وتكريس الهوية الوطنية الأردنية. لكن تبقى ثمة تحديات كبرى تجابه البلاد في وقت تشكل القضية الفلسطينية والسورية عوامل ضاغطة منقطعة النظير، فان أهمية تحقيق حوكمة رشيدة وتعزيز مقومات التوازن الاستراتيجي المحيط به وتوطيد الوحدة الوطنية وإعادة تعزيز منهج التقدم الاقتصادي يبقى هو المخرج الأساسي من أجل أن يثبت الأردن قيمته المضافة في مناخ إقليمي عاصف.
بالنسبة لسوريا لم تكن التعبيرات القومية إلا تسامياً أسطوريا صار نافياً للوطنية السورية. وما زلت أذكر كيف تلقيت توبيخاً من وزارة الخارجية لقولي في أحد المحافل الهامة إن “سوريا أولاً” وكان الرد بأننا لسنا إلا قطراً في أمة وإلا فأين تذهب القضية الفلسطينية وأين؟ وأين؟ بل سرعان ما طلب منا أن نضع شعار مركزنا فوق الإسكندرونة في خارطة سوريا بهدف عدم إغضاب تركيا في ظل شهر العسل القصير بين تركيا وسوريا في العقد الاول من القرن الحالي. إذ لم تكن الوطنية السورية ببعدها التاريخي ولا الجغرافي ولا السياسي مسموحة علناً. لكن هذا حديث آخر سأعالجه لاحقاً .
لذلك لا غرابة أنه مع تبدد الأحلام في المشروع القومي العربي وانهيار مشاريع الخلافة الإسلامية واليسارية على مختلف طوائفها، انكشف الفراغ العميق في العمارة الوطنية للأمة السورية.
الآن تشير الحروب الأهلية المستعرة أو الكامنة في شرق المتوسط ليس إلى انسداد أفق الربيع العربي الذي لا يزال يختمر. يختمر لأن بديله ما عاد الا خيال مأتة. ففي المعارك الكبيرة ليس المهم أن تنتصر في القتال بل المهم والحاسم هو الانتصار في السلم. فأمام انسداد النهائي للأفق المشروع القومجي والإسلاموي القائم على الريع ورأسمالية الدولة الاحتكارية المحسوبية، وأمام انسداد أفق المشاريع ما فوق القومية لا نزال نرى إرهاصاته بقوة.
فرغم أن نظام الأسد مثلاً قد بقي لكنه غير قادر على الحياة ورغم أن منظومة المحاصصة الطائفية في لبنان لا تزال باقية لكنها غير قادرة على الانتصار في السلم، وكذا الأمر بالنسبة لحال الأمور في العراق. نجد أنفسنا هنا أمام وضع لا يقدر فيه الجديد على النصر ولا يستطيع القديم هزيمة الجديد. فما هو السبب؟
يثير هذا السؤال بقوة المخاطر الناجمة أنه في غياب المشروع الوطني للدولة الأمة في شرق المتوسط فإن الحركات المدفوعة في معظمها بالأصولية الإسلامية، لتتحدى التكوين السياسي الحالي للمنطقة وسيادة الدولة الوطنية. هذا الجدل وهذه الوقائع هي أس النقاش الذي يجري دولياً حول مستقبل المنطقة.
إنه جدل علي مستوى المنطقة وجدل على مستوى القوى الدولية.
على المقلب الأول، من خلال مناظير القوى الكبيرة من خارج المنطقة يجري حديث معمق حول مستقبلها. بعض هذه النقاشات تبلور بشكل أولي في لقاء جمع في القدس رؤساء الأمن في كل من روسيا وإسرائيل والولايات المتحدة وبعضها تبلور في لقاءت سوتشي والتي لم تقتصر علي سوريا فحسب بل امتدت، كما حصل مع كل من سايكس وبيكو على مد أنابيب النفط والغاز من وسط آسيا ومستقبل كردستان إلخ..
يدور الحديث في هذه الأوساط الآن عن أن التفكك وانهيار العصبية الوطنية الجامعة قد انهار إلى حد قد يصعب معه تصور إمكان استعادة النظام القديم. بل إنه في ضوء الواقع الطائفي والعرقي المختلف في المنطقة، يبدو أن نظاما إقليمياً جديدا لابد من تكوينه. وفي سياق الفشل الكبير في إنتاج حد أدنى من التوافقات الوطنية لتجاوز الأزمات المستحكمة (قديم ويموت وجديد تستعصي ولادته) قد يكون لابد من استعادة دورة جديدة لانتداب القوى الإقليمية على المنطقة.
وتقدم دراسات معمقة تقوم على أنه طالما لم تتمكن هذه “الأقوام” في شرق المتوسط من إيجاد قواسمها المشتركة والتوافق مع الإثنية والثقافية التي تم إغفالها بل قعمها في منظومة ما بعد سايكس بيكو، فلابد من قوى خارجية. وكأن منطقتنا في شرق المتوسط تبحث عن مستبد جديد بلباس عسكري أو بلحية يضبط المظلوميات ويقمعها.
وتتحدث هذه الدراسات عن احتمال الاضطرار للجمع بين الحدود التي أعيد رسمها واستخدام تشكيلات سياسية جديدة لم تستخدم في المنطقة، مثل الاتحاد/الاتحاد الكونفدرالي. لكن بحسب هذه الدراسات “يبدو أن الأقليات والفصائل والحركات المقاتلة ليست مستعدة بعد للنظر في وضع ترتيبات سياسية دائمة جديدة في بيئتها الجغرافية، ناهيك عن إعادة رسم الحدود للدول. وتجد هذه الأوساط أنه قد يكون “من السابق لأوانه بل ومن ثم، من غير المجدي، أن نناقش علناً التغيير المتفق عليه للحدود القائمة واستبدال النظام القديم لحكومة مركزية بنظام مختلف” بذات القدر الذي سيكون من غير المجدي افتراض أن بعض القوى الأصلية التي تقاتل في الشرق الأوسط ستكون راضية ببساطة عن العودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل الحروب الأهلية”.
لم يعد شبح اجتماع مسؤولين كبار لدول كبرى وإقليمية مجرد شبح كما أنه لم يعد سراً، لكن الشكل الجديد يتعلق بانتداب قوي إقليمية ( وأنا أجد أن روسيا قد أصبحت عملياً هنا قوة إقليمية) ، وتكريس ذلك في معاهدات دولية تقرها العصبة الجديدة للأمم – الأمم المتحدة، لم يعد بعيدا عن التصور.
من الواضح أن من بين الاختلافات بين عامي 1916 و 2020 غياب قوة خارجية قادرة على فرض تسوية – حتى لو وافق عليها المجتمع الدولي. حيث يبدو واضحا إحجام الجهات الفاعلة الرئيسية من خارج المنطقة عن نشر قوات على الأرض أداة رئيسية في هذا الصدد. لذلك يجري البحث عن قوات ضاربة إقليمية. كما يجري التخطيط لمنع وقوع الأسلحة في أيدي جماعات تعارض التسوية السياسية، ومنع متطوعين جدد من الوصول إلى القوات المحلية، وتدمير الترسانات والمستودعات، قد يعجل بالرغبة في النظر في حلول وسط.
هذه العملية مثل عملية سايكس بيكو 1916، تبحث من حيث المبدأ بين الجهات الفاعلة الرئيسية الخارجية بشأن إعادة تشكيل المنطقة لجعل هذا التغيير ممكناً.
وتجري عمليات التفاوض في المرحلة الأولى لإنتاج تصور يقوم على أنه يمكن لسوريا والعراق أن تصبح اتحادات كونفدراليات بالمعنى الواسع للكلمة بعد تغييرات محددة في الحدود، كما يتطلب الأمر إعادة ترسيم الحدود الداخلية بشكل عام بين الولايات الفدرالية. وقد تترك التفاصيل للمفاوضات بين المكونات المستقبلية للهياكل السياسية الجديدة/الولايات الاتحادية. مع القبول بتقسيم واسع بين صلاحيات المركز وصلاحيات الوحدات التي ستصنع الدولة الفدرالية.
في المرحلة الثانية سيكون من الضروري ضبط سلوك اللاعبين الإقليميين وإقناعهم بضرورة القبول بلجم الصراعات بينهم وإنجاح المشروع القائم بخطوطه العريضة ذلك أن بقاء الاحتدام الإقليمي قد يفشل الوضع ويبقى المنطقة في حالة من الفوضى. وفي حال تحقيق تفاهم واسع في هذا السياق بين الدول الأساسية يمكن أن يتم فيما بعد جلب بعض الدول العربية الأخرى.
في المرحلة الثالثة، سيطلب من بعض اللاعبين المحليين إعطاء موافقتهم.
قد يكون من السابق لأوانه الإعلان عن “سايكس بيكو” جديدة، ولكن من المؤكد أن خطوطه العريضة في إطار البحث عن نظام انتداب جديد في الشرق الأوسط، حيث ستتشكل الصورة النهائية بشكل تراكمي عبر الاحتفاظ بالأجزاء القائمة وإضافة أجزاء جديدة، لاستيعاب التغييرات التي حدثت وتحدث.
على المقلب الثاني، بالنسبة لنا أبناء شرق المتوسط: سواء كنا عراقيين أو سوريين أو لبنانيين أو أردنيين فإن النقاش يبدو مسدود الأفق نظرا لأن التنمية والحوكمة والديمقراطية غير ممكنة من دون وحدة وطنية طوعية لكل مكونات الدولة الامة. وما لم يقر هذا الجيل العقائدي في مجمل الإقليم بطوباويته العقائدية وخيبته السياسية والعملية، وما لم يخل السبيل للجيل القادم الذي يبحث في وطنه عن الدولة-الأمة لعله يستطيع بناء غد ممكن. السؤال الجوهري بالنسبة لجيلنا هو هل يمكن إعادة إنتاج الوطنيات الحديثة من قبل جيل جديد يتجاوز منطق العقائد الطوباوية ويصهر الأمة الدولة طوعا ويحقق الحوكمة ويبني التنمية؟ يبدو ذلك خيالا لكنه في كل الأحوال أقل شطحا من الطوباويات العقائدية.
الديمقراطية وحدها ليست قادرة على حل الهويات الثانوية سواء الطائفي منها أم الإثني. وإلا لكانت لما كانت بلجيكا مقاطعات فرنسية وفلمنكية ولا كانت فنلندا تكتب كل إعلاناتها باللغتين الفنلندية والسويدية ولما كانت كندا، وما كانت الهند، إلخ..
ثمة عدة ميزات تعطينا بعض الأمل، مما قد يقطع الطريق على “القابلية “نا” للاستعمار” كما عبر عنها مالك بن نبي:
أولها نهاية الريع ونهاية كل أمل في استمرار رأسمالية الدولة الاحتكارية المحسوبية.
ثانيها أن دول الإقليم تثبت يوما بعد يوم فشلها في اجتراح نموذج قابل للحياة يكرس هيمنتها ويكرس قدرا أدنى من الاستقرار فلا تركيا ولا إيران ولا روسيا فعلت ولن تستطيع.
ثالثها أن لا أحد من هذه الدول مستمر على الأرض كما فعلت بريطانيا وفرنسا فالاستعمار بشكله القديم ما عاد مربحا ولا ممكناً.
رابعها أن ثمة جيل جديد يكفر بمسلمات الطوباويات وما لم يهاجر لن يكون له من أفق في الحياة .
خامسها لا أحد من القوى الدولية والإقليمية، والحمد لله، مستعد لتوفير الريع الضروري لتحقيق حد أدنى من الاستقرار المستدام لمنظومة استبداد جديدة
سادسها لم يعد النفط مصدرا كبيرا استراتيجيا للريع بالنسبة لشرق المتوسط .
عند هذه الحواجز يتوقف الآن المشروع الجديد لما بعد سايكس بيك، فهل تتجمع الكتلة الحرجة الضرورية لقلب المجن من قبل جيل جديد يعيد تأسيس الدولة الأمة في كل من لبنان وسوريا والعراق. والا فلن يكون إلا سايكس بيكو جديد يدير تفسخا ديموغرافيا مأساويا وباهظاً.
سمير التقي