جان بيير فيلو – اللموند – ترجمة الناس نيوز :
اختار الرئيس ماكرون أن يعود إلى بيروت للاحتفال بمئوية الانتداب الفرنسي على البلاد، وهي ذكرى تبعث على الجدل في لبنان.
أثناء زيارته لبيروت في السادس من آب الماضي، غداة الانفجار الكارثي لمرفأ بيروت، تعهد إيمانويل ماكرون بالعودة في الأول من أيلول لمعاينة البدء بتفعيل المساعدات الدولية، ولكن ايضاً، للتأكد من الإصلاحات التي يعتبر أن لا مناص منها من أجل لبنان. إن اختيار الرئيس لهذا التاريخ، وهو مئوية إعلان لبنان الكبير، يشكل تحدياً إضافيا أمام مناورات السياسيين اللبنانيين المُمّيعة وأمام المواجهة الإقليمية بين إيران والولايات المتحدة. فتاريخ الأول من أيلول 1920 هو تاريخ يُقسّم بقدر ما يُجمّع في لبنان، الذي أصبح مستقلاً في 22 تشرين الثاني 1943. إنه يوم 22 تشرين الثاني، وليس يوم 1 أيلول، هو الذي يعتبره لبنان عيده الوطني. ولكن دعونا نعود الى 1920 لقياس أهمية هذا الحدث.
الاختيار الفرنسي للبنان الكبير
جزء من الكاثوليكيين الفرنسيين يولون أهمية كبرى منذ زمن بعيد لنظرائهم في الدين الموارنة في لبنان. وهم إبان مجازر 1860 ضد المسيحيين، دعموا إرسال قوات فرنسية تمركزت في قصر الصنوبر في بيروت. وتحت هذا الضغط الفرنسي، أقرّت الإمبراطورية العثمانية الحكم الذاتي لجبل لبنان، الذي أداره مجلس متعدد الطوائف (7 مسيحيين، منهم 4 من الموارنة، مقابل 5 مسلمين). وقد أصابت مجاعة فظيعة جبل لبنان خلال الحرب العالمية الأولى. وفي تشرين الثاني 1919، فاز اليمين الكاثوليكي في انتخابات البرلمان الفرنسي ودفع بالحكومة الفرنسية لمحاربة المملكة العربية التي قامت في دمشق. وحينذاك، وصل الجنرال غورو كمفوض سامي إلى المشرق، واستقر به الحال في قصر الصنوبر. وفي نيسان 1920، تقاسمت بريطانيا وفرنسا الشرق الأوسط في مؤتمر سان ريمو، حيث حصلت فرنسا على توكيل من عصبة الأمم لكي تكون قوة انتداب في سوريا، دون أن يتم ذكر للبنان بعد. وفي 24 تموز، سحقت القوات الفرنسية القادمة من بيروت قوات الوطنيين السوريين غرب دمشق. في السابع من آب، دخل الجنرال غورو دمشق في خضم انتشار عسكري مهيب. وفي الأول من أيلول، أعلن غورو قيام لبنان الكبير، وكان يحيط به سياسيون ورجال دين من هذا البلد الجديد. وعوضاً عن أن تنحصر حدود هذا البلد بجبل لبنان وبمدينة بيروت، فقد ضمت إليها شرقاً البقاع، وجنوباً، صيدا وصور وما حولهما. كما ضمت أيضاً طرابلس وعكار شمالاً. بالمقابل، تمت تجزئة سوريا إلى خمس دول من ضمنها دولة دمشق وأخرى في حلب، سعياً لإضعاف هذا البلد.
طائفية أكثر فأكثر ضراوة
وضعت فرنسا منهجية الطائفية الموروثة منذ الاستقلال الذاتي لجبل لبنان وتمددت بها على كامل البلد المنتدب. ويدعو دستور لبنان لسنة 1926 إلى تبني “التمثيل المتوازن للطوائف”، وتستند الانتخابات على “النسبية الطائفية”، ملائمة بذلك الانتخاب الديمقراطي مع الحصص الطائفية. وفي سنة 1941، قامت قوات فرنسا الحرة، بمساندة الجيش البريطاني، بإزاحة سيطرة حكومة فيشي الفرنسية المتعاونة مع الألمان من لبنان ومن سوريا. لكن الجنرال غورو رفض منح الاستقلال الكامل إلى هاتين الدولتين. وقد قاد القمع الفرنسي السياسيين الوطنيين من كل الطوائف للتوصل إلى “ميثاق وطني” الذي قام الاستقلال على أساسه أخيراً في 22 تشرين الثاني 1943. رئيس الجمهورية سيصير إذا مسيحياً ورئيس الوزراء مسلماً مع الاعتراف المتبادل من قبل المسيحيين بعروبة لبنان ومن المسلمين بسيادته الكاملة (مما يعني رفض الوحدة مع سوريا).
فقد المسيحيون الذين كانوا يشكلون الأغلبية في جبل لبنان، تدريجياً موقعهم المهيمن في لبنان الذي وضعت أسسه فرنسا سنة 1920. وقد اندلعت الحرب الأهلية سنة 1975 ضمن مفهوم التحول الديموغرافي هذا وانتهت سنة 1990 من خلال إعادة النظر في ميثاق 1943 لصالح تعزيز صلاحيات رئيس وزراء مسلم. تحول ديموغرافي جديد سيحصل ضمن الطائفة المسلمة هذه المرة، حيث سيتقدم الشيعة على السنة. وسيفرض حزب الله المقرب من إيران، بفعل كونه متجذراً بقوة ضمن جماعة مذهبية مهيمنة، نفسه كميليشيا وحيدة مسموح لها بحمل السلاح ضمن نظام طائفي صار قاسياً أكثر فأكثر (12 طائفة مسيحية، 5 مسلمة لهم وجود رسمي). وفي تشرين الثاني من سنة 2019، خرجت الجموع للتظاهر وأطلقت “ثورة” سلمية ضد النظام المتهم بالفساد وبعدم القابلية للإصلاح. وقد شكلوا سلسلة بشرية طولها 170 كم من شمال الى جنوب بلدهم، بهدف الإشارة إلى وحدتهم أمام عصابة قياداتهم السياسية.
ماكرون في وجه ميتران وشيراك
زيارة الرئيس مارون الى بيروت يوم 6 آب، واستقباله الحافل من قبل الجموع الغاضبة، تختلف جذرياً عن زيارات من سبقه، من رؤساء على الرغم من أهمية زياراتهم حينها وملئها بالمشاعر. ففي 24 تشرين الأول 1983، زار فرانسوا ميتران بيروت غداة العملية الانتحارية التي قتلت 58 مظليافرنسيا من القوات متعددة الجنسيات (إضافة إلى 241 عنصر مارينز أميركي). بعد أن نعى الجنود الفرنسيين المفقودين، زار الجرحى وتناول طعام الغداء مع رئيس الجمهورية، وقد صرح حينها بأن “في لبنان، تبقى فرنسا وستبقى، وفية لتاريخها ولالتزاماتها”. في 16 شباط 2005، وصل جاك شيراك إلى بيروت ليعلن أن “كل الضوء سيسلط” على العملية الإرهابية التي أدت قبل 48 ساعة من وصوله، إلى موت الرئيس رفيق الحريري، رئيس الوزراء السابق للبنان، والذي كان مقرباً منه جداً. وقد رفض شيراك خلال زيارته مقابلة المسؤولين اللبنانيين، والذين كان يتهمهم بالتحالف مع نظام الأسد، المسؤول برأيه عن هذه العملية.
في السادس من آب، اختار ماكرون سجلا مختلفاً وأكثر تأثيراً من سابقيه. فميتران أتى لبنان ليكرم تضحيات جنود ماتوا أثناء أداء الواجب. وشيراك أصر على طلب العدالة للحريري، وهي مطالبة ستلتصق به خلال سنتيه الأخيرتين في قصر الإليزيه، قبل أن ينتقل منه إلى شقة في باريس يملكها ابن رفيق الحريري، رئيس وزراء لبنان حتى سنة 2020 سعد الحريري، بعد نهاية ولايته. وبعيداً عن هذا كله، لم يقف ماكرون الى جانب أي طرف سياسي محلي، وقد استقبل ممثلي كل الاطراف في قصر الصنوبر، الذي أصبح مقراً لسفير فرنسا. كما استقبل ممثلين عن المجتمع المدني الحاملين لمطالبات الاحتجاجات الشعبية شديدة القسوة بحق الطبقة السياسية. وهم من وجه تحية حارة إلى الرئيس الفرنسي حينما نادى لوضع “ميثاق سياسي جديد”.
سنة 1920 أسست فرنسا لبنان في حدوده الحالية، قبل أن ترسخ طائفية الدولة. اليوم، ومع ثورة الشعب اللبناني ضد هذا المسخ الطائفي، فإن فتح طريق لمثل هذا الانعتاق من الطائفية، وللوصول إلى مواطنة كاملة، سيكون من دون شك أجمل تكريم لهذه المئوية.
نشر في 30 آب 2020 في مدونة جان بيير فيليو في موقع صحيفة اللوموند الفرنسية.ترجمة جريدة ” الناس نيوز ” الأسترالية الإلكترونية.