د. أحمد برقاوي – الناس نيوز ::
النكوص التاريخي تحطيم جماعة من الناس وبالقوة بنية مجتمع ينتمي إلى روح العصر بالمعني التاريخي للكلمة بكل عناصرها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والثقافية، وإقامة بنية بديلة قديمة ومتخلفة عن البنية المحطمة.
مثال على ذلك النكوص التاريخي الإيراني على يد الخمينية، والنكوص التاريخي السوري على يد الأسدية، والنكوص التاريخي العراقي على يد المليشيات الشيعية، والنكوص التاريخي اللبناني على يد حزب الله ، والنكوص التاريخي اليمني على يد الحوثيين، والنكوص التاريخي الأفغاني على يد طالبان.
أما نكوص الوعي فهو مرتبط بالنكوص التاريخي، حيث ينتقل الوعي من مطابقته لروح التاريخ إلى وعي غارق في القدم، كوعي الأحزاب الأصولية الدينية الشيعية والإسلامية واليهودية وما شابه ذلك من وعي طائفي، وتحطيم وعي الانتماء للوطن وتحويله إلى انتماء طائفي وديني ومناطقي. وينتج عن النكوص التاريخي ونكوص الوعي سيطرة الوسخ التاريخي على الحياة.
والوسخ التاريخي هو كل ما تراكم في مستنقع النكوص التاريخي ونكوص الوعي. إنه جملة الفاعلين في تأكيد البنية النكوصية والدفاع عنها فعلاً وقولاً، من جهة، وجملة من الفاعلين أشباه المثقفين الذي تكونت ذهنيّتهم في المستنقع وأظهروا في الشكل معارضتهم له.
ولعمري بأن أخطر ما يواجهك حركة المستقبل المتجاوز للركود التاريخي ومستنقعه المليء بالأوساخ، هو أن يجري صراع بين نمطين من الوسخ التاريخي المدافعين عن نمطين من الركود التاريخي.
فالنكوص التاريخي الذي صنعته الدكتاتوريات العسكرية وما ولدته من بنية مستنقعية راكدة أنتج وعياً نكوصياً يسعى لبعث بنية قديمة، فإذا نحن أمام صراع زائف، لأن صراعاً بين نمطين من النكوص التاريخي نمطين من الوسخ التاريخي لا ينتج إلى استمرار البنية النكوصية، حتى لو انتصر حد من حدي الصراع. فصراع المتشابهين لا ينتج جديداً أبداً.
بل إن انتصار الشبيه الذي نما وترعرع في المستنقع التاريخي الذي تراكم على امتداد سنوات من الركود التاريخي لا يفعل سوى مضاعفة التدمير الذي لم ينجزه المنهزم.
أما الظاهرة الملفتة للنظر الناتجة عن الركود التاريخي وصراعات الأوساخ التاريخية فهي فقدان النخبة المتجاوزة للعصبية الشعبية الضرورية لإنجاز التجاوز، وآية ذلك، إن هذه العصبية الشعبية الضرورية تحتاج إلى وعي جديد مطابق لوعي النخبة المتجاوز، ومناقض لوعي الوسخ التاريخي، لكن حرمان المجتمع في البنية النكوصية من تكوين شخصيته السياسية والثقافية والأخلاقية الحرة، حرم الناس من الوعي الضروري المطابق لمعنى التجاوز.
ولهذا فإن أشباه المثقفين من كل أنواع الوسخ التاريخي يخوضون شجاراتهم بمصطلحات وجمل القاع الذي كونه المستنقع. وهذا ما أظهرته خطابات أشباه المثقفين على وسائل التواصل الاجتماعي.
فالضحية الأولى للنكوص التاريخي وما يولده من وعي هو الاختلاف، حيث مات الاختلاف بتعييناته التعبيرية الحوارية، ولهذا نلاحظ بأن أشباه المثقفين الذين ينتمون في الظاهر إلى مفهوم التجاوز الأرقى يجعلون من التطاول الرعاعي بديلاً عن الحوار في حال الاختلاف، بل إن سرعة الانتقال من المديح الناتج عن التشابه في لحظة إلى القدح والذم في لحظة اختلاف أصبحت حالة يرثى لها بفعل أشباه المثقفين.
وخطورة الركود التاريخي الذي ينتجه النكوص التاريخي بأن أمده يطول، لأن الانتقال من الوسخ التاريخي إلى وعي وإرادة تاريخيين متجاوزين عميلة صعبة. فإنه أسهل علينا أن ننقل جبلاً من مكانه من أن نحرر عقلاً من أوساخه.