يبدو السؤال ساذجاً وسطحياً، ففي كل أمة أجواد وبخلاء وأهل كرم وأهل شح، ولكن هدف هذه المقالة هو التأكيد على التلازم بين الإيمان والعطاء، وأن الفائض الحضاري ينتج فائضاً أخلاقياً.
لا معنى للإنسانية بدون التكافل، ومعيار ما يكون المرء به قريباً من الله أو بعيداً عنه هو مدى إحسانه في الناس، أو بتعبير الرسول الكريم: الخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.
ويمكن القول بوضوح إن الأمم التي أنجزت التكافل الاجتماعي وقضت على الفقر والبؤس والتشرد والجوع هي أمم مؤمنة، مهما كانت عقائدها، ومن المنطق أن تدرس كأمم قدوة في الخير الإنساني، مهما كانت الدوافع التي تحملها على ذلك.
وفي القرآن الكريم كما في الإنجيل الكريم تتكرر وصايا الأنبياء للأغنياء بالإحسان إلى الفقراء، ويبني القرآن الكريم هذه الحقيقة على سبيل الواجب والالتزام وليس على سبيل العطف والاسترحام، ولذلك فإن مناسك الإسلام كلها طوعية اختيارية إلا منسك الزكاة فهو جبري وإلزامي، ويجب على الحاكم تنفيذه بقوة القانون.
وهذا الذي تأمر به الشرائع تأمر به العقول أيضاً، وتلتزمه الدول المتحضرة، وفي هذا السياق فقد أنجزت الأمم المتحدة دراسات عميقة للتكافل المطلوب بين الأمم، وحددت على كل دولة مبلغ 0.7% من الدخل القومي يجب إنفاقه على الدول الفقيرة.
وبعيداً عن سياق الوعظ، فإن الدارسات الإحصائية الدقيقة توفر لنا التعرف على إيمان المجتمع من خلال بيانات الإنفاق في الخير، ويسعدني أن أطلع القارئ الكريم على إحصاء جميل ودقيق أنجزته منظمة OECD وهي منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية التي تضم 44 دولة هي الدول الأكثر تقدماً في العالم، لنتعرف من خلال هذه الدراسة على نسبة إنفاق الدول في الخير.
وبعيداً عن الانطباعات الشخصية والصحفية التي تعتمد دوماً مؤشرات غير علمية، وبناء على أدق الإحصاءات العالمية فإن أكرم بلد في العالم لعام 2020 هي السويد، فيما ظلت تركيا لعامي 2019 و 2018 تحتفظ بلقب أكرم دولة في العالم، فيما حظيت الإمارات بهذا الموقع عام 2017، وفي قراءة دقيقة للأرقام فإن روسيا وإسرائيل كانتا في السنوات الأخيرة في موقع الدول الأشد بخلاً في العالم.
والأرقام التي نقدمها هي الإنفاق الحكومي الرسمي على الخير خارج البلاد، وهو لا يشمل القروض ولا الإنفاق في الدعم العسكري، وكذلك فإنه خاص بالإنفاق الحكومي الرسمي، فيما يجب دراسة الخير الإنساني للأفراد والهيئات في مكان آخر وهي عادة تتجاوز الإنفاق الحكومي بضعفين أو ثلاثة.
وفي عام 2017 فإن الدول التي نجحت في تحقيق هدف الأمم المتحدة 0.7% من الدخل القومي هي ست دول في العالم فقط، وهي على الترتيب الإمارات والسويد ولوكسمبورغ والنرويج تركيا والدنمرك وبريطانيا، وفي عام 2020 صارت سبع دول وهذه أسماؤها ونسبة ما تنفقه كل دولة من الدخل القومي فيها:
1. السويد 1.14%
2. تركيا 1.11%
3. النرويج 1.11%
4. لوكسمبورغ 1%
5. الدنمرك 0.7%
6. ألمانيا 0.7%
7. بريطانيا 0.7%
بالطبع الدولة التي قدمت أكبر مساعدة خارجية هي الولايات المتحدة، ولكنها لا تصنف في الدول الأكرم لأن ما قدمته وهو 35 مليار دولار، وهو الأكبر في العالم بالطبع ولكنه لا يبلغ إلا 0.16 % من الدخل القومي الأمريكي، وهو أقل بسبع مرات مما طلبته الأمم المتحدة وقد وضعها في رتبة 28 بين الدول الــ 44 المرصودة في التقرير.
يمكن القول بالأرقام إن السويد وتركيا والنرويج سجلت عام 2020 قيمة 1.1% من الدخل القومي وهو يعني تفوقها بستة أضعاف نسبياً على أمريكا في الكرم، فيما سجلت الإمارات عام 2017 تفوقها على أمريكا بنسبة ثمانية أضعاف في الكرم، حيث سجلت 1.31% من الدخل القومي في المساعدات الخارجية الرسمية، وهي أعلى نسبة سجلتها المنظمة حتى الآن.
وهذه قائمة الدول العشر الأكثر إنفاقاً في العالم (بالمليارات) على الخير الإنساني لعام 2020:
الدول العشر الأكثر إنفاقاً في الخير الإنساني (مليار دولار):
1. الولايات المتحدة 35
2. ألمانيا 28
3. بريطانيا 17
4. اليابان 16
5. فرنسا 14
6. تركيا 9
7. السويد 6
8. هولندا 5
9. كندا 5
10. النرويج 5
وهبطت إسرائيل وروسيا إلى ذيل القائمة، ونالت كل منهما لقب أبخل دول غنية في العالم، حيث وقفت مساعداتها الخارجية عند حد 0.07% وهو عشر ما حددته الأمم المتحدة!
وأعتقد أن المسؤولين في روسيا وإسرائيل مدعوون إلى أن يقدموا تفسيراً لهذا الفشل الهائل في العطاء الخيري، ولا نحتاج لجهد كبير لنسجل بوضوح أن الأمم التي تعادي محيطها وتنخرط في حروب ومنازعات ستمسك أيديها عن الخير، وتدخر قدراتها للمعارك والحروب وهذا ما يجعلها في ذيل الأمم في العطاء.
ولا بد من الإشارة أن التقرير لم يدرج دولاً مهمة مثل الكويت وقطر وماليزيا وهي دول كريمة، ولكن لم تذكرها القائمة لاعتبارات مختلفة.
بقي أن نقول إن الإنفاق الذي أمر به الدين هو 2.5% ، شاة من كل أربعين شاة، ويمكن فهم رقم قريب في المسيحية أيضاً، وهو لا يزال أعلى بأربعة أضعاف مما حددته الأمم المتحدة عند 0.7% ، فإذا قدَّرنا أن الدول تنفق الرقم نفسه في فقراء الداخل فيكون إنفاقها 1.4% وهو بذلك لا يبلغ نصف ما فرضه الدين، ويمكننا القول إنه لم تبلغ أي دولة في العالم ما حددته الشريعة من حجم الإنفاق في الخير، ويمكن القول إن ما تحدده الشريعة هو الخير المحض، فيما تحدد الدول الالتزام والمسؤولية القانونية، فالعالم الغني يحتاج أن يقدم للعالم الفقير ما يوقف الغضب والتطرف فيه، وهو ما تقوم به الدول الغنية، وذلك وفق دراسات اجتماعية وإحصائية مختلفة، وهو كما رأينا نصف المطلوب، فيما يكون النصف الثاني خيراً محضاً يبتغي به المحسنون وجه الله والإنسانية، ومع أنني أطالب دوماً بتطوير الشريعة، ولكنني آمل أن تبلغ الأمم المتحدة هذا المعيار الإسلامي، وتطالب الدول الغنية في العالم بتحقيقه وعند ذلك فقط سينتهي الفقر والجوع والجهل في العالم.
محمد حبش