لا أعرف بالضبط أين يكمن شغفي في حياة لم أختر مساراتها، لكن التعلّم والتعليم وسما حياتي، وهو ما جعلني أختار الطريق الأكاديمي والتعليم الجامعي كمهنة لي بعد دراسة الطب البشري، ولم أرَ في ممارسة مهنة الطب، بالطريقة التي خبرتها لفترة وجيزة، أكثر من مشروع “دكانة” في السوق لا أريد أن أكسب عيشي منها ولا تلبي طموحي، مع ما يرتبط بممارستها من ضيق أفقٍ وروتين يومي سأضطر للعيش في دوامته طوال الحياة. كان ذلك أشبه بالمستحيل على شخصية لا تستقر على حال وتريد التمرد على ما هو سائد، وأن تحيا لتغامر وتغامر لتحيا.
ارتبط التعلُّم والتعليم لديّ بالحرية، بوصفهما استكشافاً لا ينضب وعلاقات اجتماعية فريدة وعابرة للأجيال، بعيداً عن محاولات حشرهما في قوالب جاهزة، من ضمن سياسات التنميط و “وحدة الصف”، حيث يريد المتسيدون أن يسحبوك إلى “الصف”، في باحة المدرسة أو في الجامع، وأن تردد ما يجب أن يُقال هنا وهناك، وتنسى تميزك الذي فُطرت عليه. فكيف يمكن أن تعيش في منظومة همّها وضع سقفٍ لطموحك وبناء زنزانة لعقلك وترك فراغ في “الصف” لتملأه وحسب؟
مهما يكن، الحياة جديرة بأن تُعاش، وفيها تلك الومضات الجميلة التي تحلق بنا بعيداً وترمينا بخفة على ضفاف الأحلام، كما تلك المحطات المؤلمة، التي تأبى أن تفارق الذاكرة وتوسعها صفعاً بين وقتٍ وآخر، مع أنها تزيدنا خبرةً وتكشف عن قدراتنا، وتعلّمنا أن الحياة ليست مجرد تعليمات لقوى “الصف”، مدعومة بطابور من علماء النفس المنهمكين في تحليل عُصاباتنا وأسباب خوفنا وقلقنا ولومنا على ضعف التكيف، إنما ثمة أيضاً تلك الدهاليز والآفاق التي علينا اكتشافها بأنفسنا.
حين باشرت حياتي المهنية في بلدي كمدرس، انهالت عليّ الاستدعاءات لتحديد “الصف” الذي أنتمي إليه، فأيقنت أن البراعة تقضي باعتماد حياة الدروشة ما أمكن، بما في ذلك توزيع الابتسامات الكاذبة على المخبرين للتخفيف من حدّة تقاريرهم، حتى “يفرجها الله”! في هذا السياق، بحثت عن جوانب أخرى في نفسي، واكتشفت أن ثمة وداً مكبوتاً نحو البشرية يجب أن أظهره بكثافة، كصفة أخفي من خلالها آرائي المختلفة في الحياة، الآراء الطبيعية ولكن تلك التي لا يمكن حشرها في أي “صف”، لعلي بذلك أستر ضعفي وأعزّز تكيفي غير السوي، وهذا برسم علماء النفس من جماعات الدعوة إلى التكيف المجرد وحسب!
كأن أبدأ صباحي بمصافحة مخبر يبتسم لي بشماتة ويقول في سره: “كاشفك أنا!” أو أن أراعي طالبي، عضو قيادة الفرقة البعثية، لئلا يؤذيني! أو أضطر للنظر في عيون زميلي الحاصل على امتيازات تدفعه إلى أن يُقصيني بمختلف الوسائل، ومنها كتابة التقارير الكيدية! أو أن أعمل مع أناسٍ مسخهم الاستبداد لدرجة أنهم يتمنون أن تنهال المصائب على الجميع حتى يشعروا أنهم سعداء وعلى قيد الحياة!
تخيل مثلاً تفاصيل اللحظات التي تعيشها حين يدخل أحدهم إلى المدرَّج ليسلمك ورقة استدعاء إلى فرعٍ ما وتحاول إخفاء الأمر، لولا أن يفضحك ارتباكك وتلعثمك وحيرتك بحضور مئات الطلبة، ويدفعك لأن تنهي المحاضرة وتخرج مهزوماً، وتشعر بأنك مجرد خرقة بالية تتقاذفها الرياح، وأقصى ما ترجوه هو الوصول إلى باحةٍ مفتوحةٍ لاستنشاق المزيد من الهواء. في هذه الحالة، أنت هو أنا، وهذا ما شعرت به بينما كانت قبضتي تتشبث بأوراق محاضرة لملمتها على عجل، وقد ابتلت بالعرق الناضح من راحة يدي بغزارة!
واللحظة التي خطفني فيها عناصر مدججين بالسلاح ورموني من سيارة الرانج روفر على باب بيت معلمهم، فلم يبق لي سوى قرع الباب بأصابع شبه متيبسة وقلب يكاد يتفجّر من الغضب. في الصالون الفسيح، عشت عدة ساعات حافلة بأكبر قدر من الأكاذيب في حياتي كلها، في محاولة للتكيف، سيء الذكر، مع غمغمات الزوج المسؤول وأوامر الزوجة الواضحة لمساعدة ابنتها، طالبتي، وإلا. المساعدة في هذه الحالة تعني أمراً واحداً، تقديم أسئلة الامتحان! لم نكن وحدنا في الصالون، وكانت تعاليم التماثيل، رديئة الصنع، تحوم في الأجواء وتمتزج بدخان السجائر وروائح العطور الفاخرة. في هذه التجربة، أعترف بأنني نجحت في الخلاص باستخدام سلسلة من الادعاءات لتشتيت انتباه من استضافوني بهذه الطريقة الفريدة، ادعاءات لا علاقة لها بالواقع ولا باحترام الذات!
وتلك اللحظة الحزينة التي ما تزال تُثقل ذاكرتي، حين دخلت طالبة مستجدة إلى مكتبي وجلست باستحياء على الكرسي المقابل. بأنامل مرتبكة، حلّت الطالبة حجابها ووضعته في حضنها، ثم هزّت رأسها يميناً وشمالاً لتتطاير خصلات شعرها وتستقر على كتفيها، وقد تعلمت أن تقوم بذلك على عجل وبتمثيلية تعوزها البراعة، ويبدو أن ثمة مَن نصحها بأن ذلك هو سبيلها إلى النجاح بلا عناء سهر الليالي. وبينما كنت أراقب ما تفعله الفتاة بهدوء وصمت وانكسار، تمنيت أمراً واحداً وحسب، أن أضمها إلى صدري وأبكي!
هذا غيض من ذاك الفيض الذي عايشته خلال الفترة التي قضيتها في التعليم، قبل أن يأخذ “هازمو اللذات ومفرقو الجماعات” قرارهم بمنعي من ممارسة عمل أحبه، ولو أنني كنت كمن يتحرك في حقل ألغام لا بد أن يهفو في لحظةٍ ما ليتحوّل إلى ضحية أخرى في المشهد السريالي السوري، حيث يمكن أن ينسى المرء اسم أمه حين يُسأل عنه، ويتمنى ألا يكون قد رضع من حليب الحياة!
منير شحود