عدنا من جولة مع محمود درويش إلى جامعة صنعاء، زرنا خلالها الشاعر عبد العزيز المقالح في مكتبه برئاسة الجامعة، وهناك التقى درويش بالعديد من الكتاب اليمنيين وأساتذة الجامعة في جلسة عامة. وتناولنا طعام الغداء في الفندق في المطعم الصيني الذي فضله الشاعر على بقية المطاعم، وأصر على تناول وجبات الغداء والعشاء هناك، وبرر الأمر بأنه أنسب له من الناحية الصحية، وهو كان في تلك الفترة يتبع حمية غذائية، وتوقف عن التدخين، وكان يكتفي بأخذ سيكارة ميريت من علبة أحد الأصدقاء، ويمضي السهرة وهو يتشممها ليظل على صلة مع رائحة التبغ الذي نصحه الطبيب بالتوقف عنه بسبب دوره في مفاقمة مرض الشرايين الذي يعاني منه.
كان درويش يود أن يأخذ قيلولة قصيرة اعتادها بعد الغذاء، إلا أن موظفي البروتوكول كانوا قد رتبوا لنا زيارة إلى محافظة المحويت التي تبعد عن العاصمة حوالي 100 كيلومتر. وتمتاز بأنها ترتفع عن مستوى سطح البحر حوالي 2100 متر، ويوجد فيها عدد من المواقع الأثرية، ومنها مدينتا شبام وكوكبان. وتوجهنا إلى هناك في موكب من عدة سيارات، وركبت أنا ودرويش في السيارة الخاصة التي وضعتها الرئاسة تحت تصرفه، وهي من نوع مرسيدس مخصصة لكبار الضيوف، واسعة ومريحة، ويقودها سائق ماهر. ركب درويش من جهة اليسار وركبت من جهة اليمين، وكنت أحمل معي ربطة صغيرة من القات التي حضرتها للرحلة، فالقات نبات منبه يطرد الاسترخاء الذي يهاجم الجسد بعد وجبة غذاء دسمة، ويلعب دور المنشط إذا كان من النوعية الجيدة.
تحركنا من الفندق حوالي الساعة الرابعة، ورغم أن درويش لم يكن مرتاحا للبرنامج السياحي، إلا أنه بدا مرحاً بمجرد ما أن خرجنا من العاصمة، وصرنا على الطريق باتجاه الجنوب نحو محافظة المحويت، ولم تستمر هذه الحالة طويلا، إذ سرعان ما بدا يظهر عليه نوع من التبرم والانزعاج بينما كانت السيارة تصعد في الطريق الجبلي الوعر الذي يحاذي واد منخفض، وللوهلة الأولى ظننت أن الأمر يتعلق بمكان جلوس درويش قرب النافذة التي كان يطل منها على انهدام عال يصل انخفاضه إلى نحو كيلو متر. وفي صورة عفوية عرضت عليه قليلا من القات ربما يتحسن مزاجه، ولكنه أجابني أن المسألة تتعلق بالارتفاع عن سطح الارض ونقص الأوكسجين، ولأنه يعاني من مشاكل في القلب أحدها الضغط فقد تأثر وأحس بالانزعاج، وطلب أن لا نمكث طويلا هناك ونعود إلى صنعاء التي ترتفع عن سطح البحر هي الأخرى، ولكن على نحو أقل يبلغ حوالي ألف متر، وبالفعل قمنا باختصار الرحلة وعدنا إلى الفندق، وعانى درويش من هذه الرحلة طيلة الأمسية.
وفي اليوم الثاني كان عليه أن يقبل عرض تناول قسط قليل من القات، خلال الجلسة في اتحاد الكتاب اليمنيين التي أدارها الشاعر اليمني زين السقاف، وكانت عبارة عن لقاء مفتوح على شاكلة مجلس قات حول تجربة دوريش الشعرية ومواقفه في الثقافة والسياسة، وكان في ذلك الوقت قد استقال من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، احتجاجا على اتفاق أوسلو.
في تلك الجلسة التي كانت في ديوان الاتحاد على مفارش أرضية كنت أجلس إلى يمين درويش، وحين شرعت بتعاطي القات مد يده والتقط غصنا صغيرا من ربطتي، وعلى الفور رماه الحاضرون كل بغصن من يده فأصبحت أمامه رزمة قات كبيرة، ولم يتمكن من رفض هذه الهدايا فأخذ منها عدة أغصان، وكنت أشرح له طريقة التعاطي معها. وحين عدت إلى دفاتر قديمة سجلت فيها ملاحظات عن رحلاتي البعيدة وجدت أن دونت التالي” القات له مفعول غريب أشعرني بالانتعاش. طرد نعاس ما بعد الظهيرة، وعمل كمنبه للذاكرة وفاتح للشهية على الكلام. لو كنا سجلنا هذه الجلسة ربما كان الأمر سيكون مفيدا، لأني تحدثت عن نقاط في كتابتي لم أطرقها سابقا. لا أجزم أن يكون القات هو السبب. ربما كان طابع الجلسة غير الرسمي وغياب التسجيل. لو كان هناك تسجيل كنت سأتكلم مع بعض التحفظ. وفي كل الأحوال أتاحت لي الجلسة الحديث بطريقة مريحة ومختلفة مع الكتاب اليمنيين الذين شعرت معهم بارتياح شديد فهم قراء مثاليون للشعر ومتذوقون له”. هذا ما سجلته كملاحظات حدثني بها درويش بعد اللقاء في اتحاد الكتاب اليمنيين، وفي تقديري أن القات ساهم في كسر الحاجز بين درويش والكتاب اليمنيين، إلا أن درويش كانت لديه القابلية لأن ينفتح تجاه مثقفي هذا البلد وأهله عموما.
وفيما يخص تلك الزيارة التي تمت بدعوة من وزير الثقافة اليمني حينذاك جار الله عمر وقمت أنا بترتيبها، أقف عند عدة نقاط. الأولى هي، اللقاء مع المشير عبد الله السلال أول رئيس لشمال اليمن بعد الملكية. وقد حضر السلال للاستماع إلى أمسية درويش، وجاء مبكرا ليسلم على الشاعر، ويطلب موعدا لدعوة غداء على شرف درويش، ولكن الشاعر اختصرها إلى إفطار في فندق الشيراتون. والنقطة الثانية حضور الأمسية الذي كان كثيفا، ولم يتخلف عنها من شخصيات البلد إلا من كان على سفر، وقد صرح وزير الخارجية حينذاك عبد الكريم الأرياني بعد فترة خلال زيارة إلى باريس، واعتذر من درويش في منزل السفير علي مثنى لأنه لم يحضر الأمسية بسبب سفره. أما النقطة الثالثة فهي، اللقاء مع الرئيس اليمني حينذاك علي عبد الله صالح. وطلب صالح أن يلتقي درويش والوفد الذي رافقه (فواز طرابلسي، صبحي حديدي، ميشيل خليفي، جميل حتمل، بشير البكر). وكان لافتا أن صالح أثار في الجلسة الأزمة بينه وبين نائبه علي سالم البيض الذي كان معتكفاً في عدن في ذلك الوقت في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1993. وطلب صالح من درويش الوساطة لحل الأزمة. وفي اليوم الثاني كان مقرراً لنا أن نذهب إلى عدن من أجل أمسية لدرويش هناك، ولكن تعذر وجود أماكن في الطائرة فتطوع صالح لتوفير طائرة هيلوكوبتر لنقل الوفد، ولكن أحد الوزراء الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة نصحنا بعدم ركوب الهيلوكوبتر، لأنها غير مأمونة ومعروفة كتقنية في التصفيات اليمنية. وبالفعل اعتذرنا وسافرنا على متن الرحلات اليومية. والنقطة الرابعة هي، اللقاء بين علي سالم البيض ودرويش في عدن، وكان لافتا أن البيض لم يتكلم عن الأزمة بينه وبين صالح، واراد أن يتحدث عن الثقافة، وذهب نحو الشعر وبيّن أنه على معرفة بالمتنبي وامرؤ القيس الذي استفاض في الحديث عنه كونه من قبيلة كندة الحضرمية، وهي ذات المنطقة التي ينحدر منها البيض. وطرح سؤالاً عن قصيدة “ذهبنا إلى عدن” والشطر الذي يقول: أَما زال من حقنا أن نصدق أحلامنا ، ونكذب هذا الوطن؟. وخرج درويش من اللقاء بانطباع عن البيض يختلف عن الذي كونه حول صالح، بين نائب مثقف وعلى معرفة بكبار الشعراء، ورئيس فهلوي يوظف كل شيء من أجل مصلحته بما في ذلك الشعر.
تبقى تلك الرحلة أساسية بالنسبة إلى درويش الذي ظل يستعيدها دائما، بوصفها رحلته الأولى الى اليمن الذي يشكل كمكان عنصرا في بعض قصائد درويش، وكان افتتح الأمسية في صنعاء بقصيدته الشهيرة :
ذهبنا إلى عدن قبل تاريخنا،
فوجدنا اليمن حزينا على امرئ القيس
يمضغ قاتا ويمحو الصور”
واللافت أن هذه القصيدة كانت شائعة إلى حد كبير في الأوساط الثقافية اليمنية، التي اعتبرتها بمثابة رؤية درويشية لأحداث كانون الثاني عام 1986 في عدن، التي قام خلالها الرئيس علي ناصر محمد بتصفية جزء من خصومه السياسيين خلال اجتماع اللجنة المركزية للحزب ومنهم الأمين العام للحزب الاشتراكي الحاكم عبد الفتاح إسماعيل.
بشير البكر .