محمد برو – الناس نيوز ::

مدونة غير شخصية كتاب حديث للكاتب الفلسطيني ماجد كيالي، وهو إعادة مراجعة لمحطات مهمة ومؤثرة في حياة فلسطيني لم يتوقف تطوافه بين المنافي من حلب إلى دمشق إلى بيروت وإسطنبول ثم ألمانيا وأمريكا، ويحط رحاله اليوم في دمشق التي لم تمنحه جنسيتها بعد.
هي، كما عبر بالضبط، “مدونة غير شخصية” لكنها تسير على إيقاع هذه الشخصية التي تجسد حالة من حالات التحول من المناضل الشاب إلى المناضل المخضرم الذي ألجأته الأيام ليمتهن الكتابة ويتحول إلى كاتب يوظف تلك الرحلات والتجارب والمنافي في رؤيته للمسألة الفلسطينية، التي كانت حركة فتح في محور ذلك الحراك والانتماء الأول.
لكن هذا الحب الأول لم يكن لينجو من قلم الناقد المحب، سواء حين كان منخرطًا بالعمل التنظيمي أو حين ابتعد عنه ليكون كاتبًا سياسيًا مستقلًا ومتخصصًا بالشأن الفلسطيني الذي يعرف تفاصيل كل حركة فيه.
وفي فصول هذا الكتاب الماتع تتعرف إلى مجموعة من سِيَر شخصيات فلسطينية وسورية كان لها حضورها ودورها في المشهد الفلسطيني تنظيميًا أو ثقافيًا وفكريًا، أمثال إدوارد سعيد ومجيد أبو شرارة وميشيل كيلو، وسلامة كيلة، ويوسف سلامة.
في أقدم مدينة مأهولة في التاريخ ولد كاتبنا في مدينة حلب، بعد ست سنوات من النكبة الأولى التي حلت بفلسطين وطنه الأم، وشهد سلسلة من الحروب والنكبات والتحولات الكبيرة التي شهدها الفلسطينيون والحركة الوطنية الفلسطينية.

هناك اكتشف فلسطينيته وما لاصق تلك الهوية من مشاهد متكررة في أحياء حلب: “الكيّالية” و“العرقوب” و“مخيم النيرب”، حيث تعرف إلى أسماء المدن الفلسطينية التي أصبحت هنا أسماء لشوارع المخيم. فالفلسطينيون والسوريون يحملون معهم حيثما حلوا أو ارتحلوا أسماء مدنهم وأحيائهم، وكذلك أصناف طعامهم ونكهة مطبخهم الذي يشكل جزءاً أساسياً من الذاكرة والذائقة والثقافة التي تميزهم عن أي آخر مختلف.
في حيه الحلبي عُرف “بالفلسطيني” كما عُرف والده قبله، وهناك سمع الاتهام الباطل بأنهم باعوا أرضهم لليهود، إلى أن جاءت معركة الكرامة “1968” فغيرت صورة الفلسطيني من “اللاجئ المسكين” إلى “البطل المقاوم”.
في صيف “1970” قرر الشاب الثائر ترك الدراسة والتفرغ التام للقضية الكبرى “فلسطين” والتحق بصفوف حركة فتح في الأردن. هذه النقلة النوعية كانت تعني له كشاب فلسطيني يافع ثلاث نقاط جوهرية: النضال من أجل تحرير فلسطين، والعمل على استعادة الكرامة المهدورة والمستباحة، وإعادة تشكيل وصياغة الهوية الفلسطينية كمقاومة وطنية مختلفة كليًا عن هوية اللاجئ الذي ينتظر المعونة أو حصته الإغاثية.
كان ماجد كيالي من التيار النقدي اليساري أو الديمقراطي في حركة فتح، هذا التيار الذي عارض “البرنامج المرحلي” (“النقاط العشر”) وتمسك بمكافحة الفساد في التنظيم. وإثر التصدعات والانقسامات التي شهدتها الحركة بعيد اجتياح إسرائيل لبيروت، وفي أواسط الثمانينات انتهى به المطاف خارج صفوف الحركة تنظيميًا بعد أن تبلورت رؤيته “أن هذه الحركة قد أنجزت مهامها الممكنة ولم يعد لديها ما تضيفه” سوى مزيد من النزاعات الداخلية والانقسامات.
وهنا بدأ الشطر الثاني من نضاله عبر الكتابة متحررًا من كل قيد سوى مسؤوليته الأخلاقية والوطنية. صحيح أن علاقته بعالم القراءة والمكتبات بدأت وهو بعد صغير وخلال عمله في مكتبات حلبية، إلا أن بداياته ككاتب مستقل كانت عبر الصحافة اللبنانية التي مثلت “الرئة الكبرى” و“المتنفس الأوسع” للكتاب العرب آنئذ، لما تتمتع به لبنان وقتها من حرية وغنى ثقافي وعراقة في مضمار الصحافة الحرة.
كتب في صحيفة “السفير” وصحيفة “النهار” وصحيفة “المستقبل”، حيث تمكن الصديق من التعبير عن الحقيقة كما يراها بصراحة تامة.

عاش تجربة التشرد والغربة بعيد اشتعال الثورة السورية. وفي عام 2012 غادر الكاتب الفلسطيني-السوري إلى نيويورك وبقي فيها أربع سنوات بعد أن شهد أعتى نكبة حلت بوطنه الثاني سوريا.
بعدها انتقل إلى إسطنبول التي تجمعت فيها جموع غفيرة من المثقفين والسياسيين السوريين والفلسطينيين، وصارت قِبلة لكل مناضل وثوري عربي، لسنوات قبل أن يُعاد تشكيل المشهد والمتغيرات .
هناك لن تكون مضطرًا لاستخدام لغة أخرى، فالسوريون والفلسطينيون نشروا محالهم التجارية ومطاعمهم ومقاهيهم وحتى مكتباتهم هناك، وهي بذات الوقت قريبة جدًا من الوطن الأم. هذه المدينة، بالرغم من أنها “دُرّة مدن العالم” حسب رأي كثيرين ممن عاشوا فيها، إلا أنها تعيش قلق التأرجح بين الهوية الإسلامية والعلمانية، وبين جغرافيا أوروبية وآسيوية. هذا القلق يراه كثيرون مصدر غنى وثراء وتوازن يندر أن تراه في مدن أخرى.
في برلين وجد هذا المترحل الهادئ بعض الهدوء ويُسر الحياة وسهولة التنقل، فهي مدينة أفقية غنية بالخضرة والمتاحف والجمال. لكن العودة إلى البدايات نعمة أو نقمة لا ينالها الكثيرون.

فبعد تغرّب ثلاث عشرة سنة في مدن مختلفة، يعود كاتب ” مدونة غير شخصية ” إلى دمشق بعيد سقوط النظام الذي استباح البلاد ودمرها، وصَدّر جرائمه ومخازيه إلى مدن عربية كثيرة، ليجدها مُنهَكة مخنوقة شاحبة مكسورة وكئيبة.
لم يجد ماجد “مخيم اليرموك” الذي شهد ولادة أبنائه، لكن هذا كله لا يخفي الفرح الغامر الذي يعيشه السوريون بعد أن انزاحت الصخرة الكبرى عن صدورهم، وغدا العبء الأكبر في تاريخهم وحاضرهم وراء ظهورهم.
إعادة البناء وطروحات المستقبل هاجس يرافق حياة المجتهدين لأوطانهم ، هكذا بدى يردد كيالي في جلسات الأصدقاء وهو يتنقل بين دفات الذكريات في دمشق .
كتاب “مدونة ليست شخصية” رحلة مناضل ومثقف فلسطيني من منفاه السوري إلى مدن مترامية ومتباعدة، ورحلة تحول مناضل من النضال السياسي إلى النضال الفكري.
هو مدونة فكرية جماعية تحكي حكاية جيل كامل، عاش النكبة والنكسة وحروب المخيمات والتشرد في المنافي، ويرصد التحولات الفكرية العميقة التي عاشها فلسطينيو الشتات في سوريا ولبنان والأردن، ويركز بشكل منفرد على عمق علاقة المثقف الفلسطيني بنظيره السوري، مستعرضًا بعضًا من علاقته بالمفكر سلامة كيلة ويوسف سلامة وآخرين، ليؤكد أن الهوية الفلسطينية ليست محصورة بالجغرافيا الفلسطينية بل تتعداها إلى حالة وجودية وفكرية، وهي مرآة للحلم بالتحرر والالتزام بالحرية.
وحين سقط نظام الأسد في دمشق شعر الفلسطينيون أن حلمهم في الحرية صار أقرب، وأن زمن “تحول المستحيلات إلى ممكنات” قد عاد ثانية.
أن تكون فلسطينيًا في المنفى السوري أو أن تكون القضية الفلسطينية في مركز القيم التي تناضل من أجلها، هو أن تعيش بين ذاكرة الوطن المفقود، وحاضر المنافي المتعددة، وأن تصبح الكتابة والوعي المتجدد فعلك المقاوم أمام الإبادة والنسيان.
وكما أي مثقف عاش بين الشرق والغرب ، كانت الاحداث تجول في فكره ، والمقارنات لصيقة المقاربات ، وهي تجارب تثري محطات العمل الثقافي والفكري.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب “مدونة غير شخصية” للكاتب الفلسطيني ماجد كيالي
دار كنعان للنشر- دمشق
يقع الكتاب في 200 صفحة
صدر الكتاب نهاية شهر تشرين الأول 2025

الأكثر شعبية

سوريا في العقل الأمريكي.. دولة تُدار كي لا تُحسم



