ميديا – الناس نيوز ::
المدن – المحامي السوري ميشيل شماس – من بين الملفات التي لا تزال تؤرق المشهد السوري بعد إسقاط نظام الأسد الإجرامي، يبرز ملف مذكرات الملاحقة الأمنية، كأحد أكثر القضايا تعقيداً وإلحاحاً، لما ينطوي عليه من أبعاد قانونية وحقوقية تهدد صدقيّة مسار العدالة الانتقالية برمّته. فبالرغم مما أُعلن عن إصلاحات اقتصادية وقضائية وإدارية وأمنية، ظلت أدوات القمع القديمة حاضرة في الواقع، وفي مقدمتها المذكرات الأمنية التي أصدرتها أجهزة النظام السابق ضد مئات الآلاف من السوريين، معظمها لأسباب سياسية بحتة لا تمتّ إلى القانون بصلة.
بُنيت تلك المذكرات على تقارير أمنية غير موثقة، أو على اعترافات انتُزعت تحت التعذيب، واستخدمت وسيلةً للترهيب والإقصاء، لا لتطبيق العدالة. ومع سقوط النظام الذي أنشأها، يفترض أن تسقط تبعاً له مشروعية كل ما صدر عن أجهزته القمعية، لأن الأصل في القرارات الإدارية والقضائية أن تستمد قوتها من شرعية السلطة المصدرة لها. وبانهيار تلك السلطة، تنتفي الصفة القانونية لأي قرار صادر عنها إذا كان مخالفاً لمبادئ الدستور أو للحقوق الأساسية للإنسان.

غير أن ما يحدث اليوم يناقض هذا المنطق. فقد رُصدت حالات كثيرة لمواطنين عادوا إلى البلاد، بعد وعود حكومية بإلغاء مذكرات التوقيف، ليكتشفوا أن أسماءهم لا تزال مدرجة في قوائم الملاحقة، وأن الأجهزة الأمنية ما زالت تتعامل معهم كما لو أن النظام القديم قائم. بعضهم طُلب منهم مراجعة فرع الأمن، وآخرون مُنعوا من السفر أو من الحصول على وثائق إلا بعد مراجعة الدوائر المتخصّصة، وبعضهم الآخر حصل على إذن سفر، ثم اكتشف بعد عودته إلى سوريا أن المنع ما زال قائماً، ليعود إلى المعاناة نفسها في مراجعة الدوائر المعنية للحصول على إذن جديد. هذه الوقائع تكشف أن المذكرات الأمنية لم تُلغَ فعلياً، وأن السلطات الجديدة لم تعتمد بعد آلية قانونية واضحة لمراجعتها أو البتّ في مشروعيتها.
ويزداد التناقض وضوحاً حين نلاحظ أن الدولة الجديدة تُظهر تساهلاً مع من ارتكب جرائم جنائية مثبتة. إذ أُطلقت سراح آلاف الموقوفين الجنائيين في لحظة فوضى أعقبت انهيار النظام. وما يزيد الأمر خطورة أن هؤلاء ما زالوا طلقاء من دون أن تُتخذ بحقهم إجراءات قانونية لإعادة توقيفهم. بل إن بعضهم أُسندت إليهم مهام حساسة داخل مؤسسات الدولة، كما حصل في حالة المحامي محمد العيسى، الذي كان موقوفاً جنائياً في سجن عدرا، ثم خرج ليُعيّن حارساً قضائياً لشركة MTN، قبل أن تستجيب للمطالبات بعزله، ويُعاد توقيفه بعد مرور تسعة أشهر على تعيينه.
في المقابل، لا يزال العديد من المعارضين السياسيين يعانون من استمرار وجود مذكرات أمنية بحقهم، بالرغم من الوعود الحكومية بإلغائها. حتى من ترك عمله في مؤسسات الدولة، يفترض أن يُعالج ملفه من دون إبطاء، فليس كل من ترك العمل فعل ذلك طوعاً؛ بل كثيرون هربوا من القمع والخوف، لا من المسؤولية. ومع ذلك، ما زالوا ممنوعين من السفر، وتُعرقل إجراءات رفع المنع عنهم من قبل بعض الموظفين القدامى، لا سيما في وزارة العدل، الذين يُصرّون على تطبيق قوانين النظام وتعليماته الساقط بدلاً من التعليمات الجديدة المستندة إلى الإعلان الدستوري.
هذه المفارقات الصارخة لا يمكن فصلها عن السياق القانوني الذي يُفترض أن يحكم العلاقة بين الدولة والمواطن، خصوصاً في مرحلة انتقالية يُفترض فيها احترام مبدأ المشروعية وسيادة القانون.

فمن منظور قانوني، تُعدّ المذكرات الأمنية خرقاً صريحاً لمبدأ المشروعية، الذي يقتضي أن يستند كل تصرّف إداري أو قضائي إلى نصّ قانوني واضح، صادر عن جهة متخصّصة، ويخضع لرقابة قضائية تضمن حق الاعتراض والمراجعة. فغالباً ما كانت هذه المذكرات تصدر بقرارات أمنية مباشرة، بلا رقابة قضائية، ومن دون أيّة ضمانات قانونية أو حقوقية.
وما دام النظام الذي أصدر هذه المذكرات قد سقط سقوطاً نهائياً، فإن مشروعية ما صدر عنه تسقط تبعاً لذلك، لأن القرارات الإدارية والقضائية تستمد قوتها من شرعية السلطة التي أصدرتها. وإذا زالت تلك الشرعية، زالت معها أهلية الإلزام القانوني، وفقاً لمبدأ مستقر في الفقه الدستوري يُعرف بـِ “سقوط المشروعية بانتفاء النظام”، والذي يقوم على أن السلطة التي تغتصب الحق العام لا تملك صلاحية إصدار قرارات مُلزمة. ثمّ، فإن استمرار العمل بمذكرات أمنية صادرة عن نظام منتهٍ يُعدّ مخالفة جسيمة لأسس العدالة وسيادة القانون، وإقراراً ضمنياً بشرعية غير شرعية.
كما أن استمرار العمل بها يُعدّ مخالفة جوهرية لما نصَّ عليه الإعلان الدستوري في مادته 48، التي أكدت ضرورة تمهيد الأرضية لتحقيق العدالة الانتقالية عبرَ:
1. إلغاء جميع القوانين الاستثنائية التي ألحقت ضرراً بالشعب السوري، وتتعارض مع حقوق الإنسان.
2. إلغاء مفاعيل الأحكام الجائرة الصادرة عن محكمة الإرهاب، بما في ذلك ردّ الممتلكات المصادرة.
3. إلغاء الإجراءات الأمنية الاستثنائية المتعلقة بالوثائق المدنية والعقارية التي استخدمها النظام البائد لقمع الشعب السوري.
وبناءً عليه، فإن استمرار الاعتداد بهذه المذكرات لا يُعدّ مجرد خروج عن مبدأ سيادة القانون؛ بل يُشكل خرقاً مباشراً للمادة 48 من الإعلان الدستوري، التي جعلت إلغاء هذه الإجراءات الأمنية شرطاً تأسيسياً لتحقيق العدالة الانتقالية.
إن تجاهل هذا الملف لا يُعد إخفاقاً إدارياً أو تقنياً فحسب؛ بل انتهاكاً لالتزامات الدولة الدولية، وتحديداً العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وخطر سياسي يُهدد شرعية الدولة الجديدة، داخلياً وخارجياً. فالإصرار على إبقاء أدوات القمع القديمة يعني عملياً استمرار بنية الاستبداد بوجوه جديدة. والعدالة الانتقالية، في جوهرها، تُقاس بقدرة الدولة على تفكيك منظومة الخوف التي حكمت المجتمع لعقود، وإرساء منظومة قانونية تحمي الفرد من تغوّل الأجهزة، لا أن تُخضعه لها.
العدالة الانتقالية لا تكتمل إلا بإلغاء هذه المذكرات، وتعويض المتضررين بتسهيل إجراءات إلغائها، ومحاسبة كل من يعرقل ذلك، سواء عن قصد أو نتيجة تراكمات إدارية. وبالرغم من أن الموظفين الجدد يبذلون جهدًا مشكورًا ويعاملون المواطنين باحترام، إلا أن نقص الخبرة لديهم يُستغل أحياناً من قبل بعض الموظفين القدامى، الذين يُعيدون إنتاج منطق الدولة الأمنية بأساليب بيروقراطية ملتوية، خصوصاً في وزارة العدل.
لذلك، فإن إبطال هذه المذكرات ليس جوازياً؛ بل هو واجب قانوني وأخلاقي تفرضه طبيعة الانتقال من حكم استبدادي إلى نظام ديمقراطي يقوم على احترام الحقوق. ويقتضي ذلك اتخاذ خطوات عملية عاجلة تشمل: الإلغاء الفوري لجميع المذكرات الأمنية التي صدرت من دون محاكمة عادلة، وتشكيل لجنة قضائية مستقلة ذات ولاية حصرية لمراجعتها، تضم قضاة نزيهين وخبراء في القانون وممثلين عن منظمات المجتمع المدني، وتعمل ضمن إطار زمني واضح وشفاف. كما يجب ضمان حق العودة والتنقل للمعارضين السياسيين من دون عراقيل أمنية، بما يضمن تفكيك أدوات الاستبداد وإرساء منظومة قانونية عادلة تحمي الفرد من سلطة الأجهزة لا العكس.





