د . منير شحود – الناس نيوز ::
المذكرات اليومية وقائع عنيدة يمكن البناء عليها لمعرفة أحوال الناس والظروف الاجتماعية واقتصاديات المنطقة التي سادت في فترة زمنية ما، وحتى استنتاج مواقف سياسية ذات أهمية خاصة. هذا ما يمكن أن نستخلصه من مذكرات السوري صياح النبواني التي نُشرت مؤخراً: من الثورة السورية الكبرى إلى الاستقلال، مذكرات ووثائق، تقديم وتحقيق د. فندي أبو فخر، (دار دلمون الجديدة للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 2022).
في هذه اليوميات، وبعد الحديث عن المعارك والانتصارات والهزائم التي باتت معروفة للجميع، يعرض الكاتب للمصاعب التي واجهها الدروز في إقناع أهل حوران بمشاركتهم الثورة على الفرنسيين، والذي وصل إلى حد تهديد أهل إحدى القرى باستعمال السلاح ضد الثوار إن أصروا على “توريطهم” في قتال الفرنسيين، لا بل أنهم تعرضوا للثائر الدمشقي محمد الأشمر الذي رافق الوفد الدرزي في حوران كوسيط وشتموه (ص 69).
يمكن تفسير ذلك جزئياً بحياة الاستقرار التي يعيشها الحوراني كفلاح، بخلاف الحياة نصف البدوية لأهل الجبل، وينطبق ذلك على ثورة أنصار صالح العلي ضد الفرنسيين أيضاً.
وصفت اليوميات الظروف التي عاش فيها الثوار وعائلاتهم كمنفيين في صحاري شمال السعودية وشرق الأردن، فقد تغيرت حياتهم جذرياً، ووقعوا ضحية الحاجة إلى التبرعات من أجل تأمين موارد للعيش في بيئة قاسية، فعملوا في تجارة الفحم واستخراج الملح من السبخات الصحراوية وبيعه في المدن القريبة. كانت التبرعات هي المورد الأساسي للعيش، ووقعت الخلافات بسبب خضوع عمليات التبرع إلى التجاذبات السياسية بين حزب الاستقلال (الكتلة الوطنية) وحزب الشعب (د. عبد الرحمن الشهبندر).
تدخل حزب الاستقلال بقوة في هذه العملية عبر عادل أرسلان أمين سر الحزب، والذي صار شخصية متحكمة بمصير الثوار بدرجة كبيرة من خلال الاستئثار بالمعونات (ص 164)، فنشبت الخلافات مع سلطان الأطرش الذي بقي وفياً لرفاق السلاح ودعا دوماً لعدم التفريق بينهم.
ولم يكتفِ الكاتب بنقد عادل أرسلان وحزبه، وتوجه باللوم إلى سلطان الأطرش لأنه أخلف بوعده حول مسألة إعاشية في إحدى المرات (ص 191).
كما وردت في اليوميات معلومات عن فساد عادل العظمة، وهو شقيق نبيه العظمة وزير الدفاع في حكومة سعد الله الجابري الكتلوية (ص 213). أما حزب الشعب فكان متهماً بممالأة السياسة الإنكليزية.
والطريف أن أثرياء مصريين مقربين من هذا الحزب، ربما من أصل يوناني (آل لطف الله)، كانوا يطمعون إلى حكم سوريا (ص 174).
كما أشارت المذكرات إلى تعرض سلطان الأطرش إلى محاولة اغتيال في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1930 من قبل جندي مغربي ادعى فراره من الجيش الفرنسي (ص 222).
ويبدو أن هذه الحادثة كانت من بين أسباب تفكير الأطرش بالانتقال إلى العراق، خاصة بعد فشل المفاوضات مع الفرنسيين وشح التبرعات وتفاقم الخلافات الحزبية والشخصية، كما أسرَّ الأطرش إلى كاتب المذكرات أوائل عام 1931 (ص 226).
لكن الأطرش قرر في نهاية المطاف الرحيل من حديثة في منطقة الجوف السعودية إلى مدينة الكرك الأردنية والإقامة فيها منذ 11 يوليو/تموز 1931. وقد وقع الثوار ضحية الخلاف السعودي الأردني، كانعكاس للصراع بين آل سعود وآل الحسين الهاشميين، وأفضى تضييق السعوديين على الثوار إلى تقربهم من حكومة الأمير عبد الله في الأردن (ص 192).
واعترف كاتب المذكرات في عام 1929 بأهمية الدور الإنكليزي في استمرار الثورة من عدمه، فكتب: “الثورة انتهت إلا إذا شاء الإنكليز” (ص 159). فقد قامت السياسة الإنكليزية في زمن الانتداب على التسبب بالمشاكل لحلفائهم الفرنسيين، لكن من دون هزيمتهم وليبقوا تحت سيطرتهم. كما يورد الكاتب ما يشير إلى مدى هيمنة الإنكليز على إمارة شرق الأردن، ودورهم في منع عمليات السلب والنهب في مناطق سيطرتهم، من خلال دوريات بالطائرات لمسؤول الاستخبارات البريطاني ج. دومنغيل ومرافقه الأردني سالم المحمود.
وفي إحدى جولاته لجمع التبرعات في الأردن، واجه كاتب المذكرات موقفاً نمطياً في شرقنا الغارق في خلافاته المذهبية، فقد قالت له إحدى الشيخات بأنهم كانوا دروزاً قبل أن يهديهم الله إلى الإسلام، واتهمت الدروز بالكفر: “أنتم كفار يا ابني”، فالإسلام المقصود و”الصحيح” هنا هو الإسلام السني وحسب (ص 202 – 203).
وثمة حادثة ذات أهمية سياسية، تمثلت بزيارة موفد من قبل الزعيم التركي أتاتورك إلى سلطان الأطرش في منفاه في 27 مايو/أيار 1929، في محاولة لاستمالة الثوار.
حمل الموفد معه 5 ملايين ليرة تركية كهدية لسلطان الأطرش، مع وعود بدعم الثوار بالمال والسلاح والمستشارين من أجل محاربة الفرنسيين. سأل سلطان الأطرش الموفد عن الثمن المطلوب من الثوار لقاء هذه المساعدات بعد استقلال سوريا، فأجاب الموفد بأن تركيا لا تريد سوى استقلال سوريا وتعميم الثقافة التركية وإدخال اللغة التركية في المناهج المدرسية إلى جانب اللغة العربية! فأعرب الأطرش عن تمنياته بأن يبقى العلم التركي مرفوعاً في سماء تركيا، أما سوريا فعندما تستقل ستحافظ على علاقات الصداقة مع تركيا، والمجال مفتوح لأن تساعد تركيا سوريا سياسياً (ص 169).
يُشار إلى أن تركيا أتاتورك كانت الداعم الأساسي لثورتي هنانو وصالح العلي في الشمال، وخاصة بعد توقف دعم الملك فيصل بالنسبة لصالح العلي، وقد ترتب على هزيمة فرنسا أمام تركيا خسارات كبيرة لأراضٍ سورية في كيليكية، ومن ثم خسارة لواء اسكندرون لاحقاً.
وربما هي المرة الأولى التي نعرف فيها أن أتاتورك حاول إشعال الثورة في الجنوب بعد توقف الثورة السورية الكبرى بسنتين.
بعد العفو الفرنسي، عاد النبواني إلى الجبل في شهر أغسطس/آب 1932، وعبَّر عن خيبة أمله بالقول: “بعد كل هذا العناء صرنا تحت رحمة من حاربناهم بالحديد والنار”، وتعرض إلى جولات من التحقيق على يد الاستخبارات الفرنسية، ثم انشغل بهموم الحياة اليومية العامة والخاصة، ومنها شق قنوات الماء لإرواء القرى العطشى.
ومن المفارقات المؤلمة أيضاً أن جاء من يفاوض النبواني في بداية عام 1949، في أثناء حكم الكتلة الوطنية، ليكون مخبراً على سلطان الأطرش نفسه لقاء مرتب شهري قدره 250 ليرة سورية .
لا يذكر النبواني اسم الشخص ولكنه يشير إليه بحرفين (م. ن.) وبأنه موفد من قبل (ع. ع.). ولنتذكر في هذا الصدد إصرار الكتلة الوطنية على إعدام سلمان المرشد بعد الاستقلال مباشرة، والتي فضحتها مذكرات محمد نهاد السياف التي نُشرت باسم “شعاع قبل الفجر”.
لا تكفي “النخوة والفزعة” والمشاعر الجياشة لقيام ثورات ذات مضامين سياسية، ولم ينتج عن كل الثورات ضد الفرنسيين، على سبيل المثال، أية فوائد وطنية أو محلية ملموسة، فقد قامت على المشاعر وانتهت بالمشاعر وخيبات الأمل.
وإذا كانت النوايا الطيبة تغفر للثوار في تلك الأوقات، إلا أنه من الضرورة بمكان دراسة هذه الثورات بصورة نقدية وعلمية لاستخلاص العبر، حتى لا نبقى نكرر “فزعاتنا” إلى ما شاء الله.