[jnews_post_author]
لا قضية في العالم استغلت، كما القضية الفلسطينية، فعدا إسهام القائمين عليها بإضاعة حقوق الفلسطينيين، مورس من خلالها على الشعوب العربية جميع أنواع القهر والقمع طوال ثلاثة أرباع القرن، واستنزفت جهود الملايين من البشر، وعبثت بأقدارهم، وطالت حياتهم وأموالهم.
لولا عدالة هذه القضية، ما اندفعت الشعوب العربية إلى الدفاع عنها، كانت قضية حقوق تستحق النضال من أجلها، بلغ الإيمان بها حد التضحية بالروح لمئات الآلاف من العرب والمناصرين لها، وشكلت معنى وجود عدة أجيال، التزموا بها وكرسوا حياتهم لها.
استثمرت الحكومات العربية فلسطين، داخليًا وخارجيًا، ففي الداخل استغل العسكر في الدول الجمهورية النكبة الفلسطينية لتسويغ الانقلاب تلو الانقلاب، فأُسقطت الحكومات الوطنية، وأُقيم بدلًا منها قيادات عسكرية، منحت الدكتاتوريات الحصانة، وخيضت انتخابات، كانت راية التحرير المجيدة مبررًا لتزويرها. كل هذا بدعوى حرق المراحل بإنشاء جيش قوي على أن يتولى تحرير الأراضي المغتصبة، وكان حماية للأنظمة القائمة، تحت عنوان الاستعداد للحرب، وذريعة للانتصارات القادمة.
هذا كي نفهم معنى التطبيع اليوم، وهو يسري من بلد إلى بلد، وكأنه انتصار آخر، وأصبح تحقيق السلام مع إسرائيل، يعوض عن جميع ما مرّ من هزائم، تحت عنوان الواقعية، بعدما انقلبت المفاهيم، لا سيما وأن المرحلة الثانية بدأت بالتسارع، وتتميز عن المرحلة الأولى للصلح الإسرائيلي المصري الأردني، التي حصدت السلام، ولو كان سلامًا باردًا، لكنها أخفقت في التطبيع، حتى بعد مضي نحو أربعة عقود، ورغم احتجاج إسرائيل مرارًا، فالصلح الفعلي لم يحز على الشرعية، كان صلحاً شكلياً، وتعاقدًا مصلحيًا بين حكومات، الرابح الوحيد إسرائيل التي سعت إلى المرحلة التالية مدركة أن عائديته مع الحكومات لن تخيب، ولو كان على حساب الشعوب، ما المشكلة ما دامت الحكومات المطبعة لا تهتم بشعوبها، فلماذا تهتم إسرائيل؟
المرحلة التالية، بدأتها الإمارات ولحق بها السودان والمغرب… هذه المرة، تلافيًا لعثرات الماضي، عُقدت الاتفاقيات مع المزيد من الاشتراطات، فالصفقات يشرف عليها التاجر الأمريكي، بالتالي ستكون مقابل لاشيء، ما يمنح إسرائيل حوافز إضافية، وإن بدا للأطراف المتعاقدة أن المكاسب سترتد عليها بالتساوي. فبالنسبة للإمارات، ستحافظ دبي على مركزها “لاس فيجاس” الخليج بحماية الإسرائيليين. وتنزع أمريكا السودان من قائمة الإرهاب، فتنجو من أقدارها العربية. أما المغرب فالاعتراف الأمريكي بسيادة الرباط على الصحراء…. مقابل لم يكلف شيئًا، ليس أكثر من ضغط أمريكي ووعود إسرائيلية، أما المكاسب السياسية التي ستحققها إسرائيل، فليس المزيد من الشرعية، ولا التوغل في العالم العربي فقط، المقابل الحقيقي سيحدد مع الوقت، وهو بالمناسبة بلا حدود، ومستمر مع الزمن.
هذه الصفقات، رافقتها شروط تعجيزية، وهي تطويع الشعوب على تطبيع لا استنكاف عنه، وأن يحصد إعلاميًا، دولاً تهرول إلى التوقيع عليه، ومظاهر شعبية مفبركة، لا تقل عن حلم سعيد طال انتظاره. إنهم يتعاملون مع شايلوك، فما بالك والشيطان الأكبر يدعمه، تاجر يبيع أي شيء، ولو لم يكن بحوزته، لكن المظاهر هي كل شيء، ولا تتطلب إلا قاعات وأضواء وكاميرات.
يحاول بعض السياسيين تصوير ما وقع على أنه خطيئة سياسية، نوع من التسرع، خطوة لم يُحضّر لها جيدًا، وبالتعبير البراجماتي كان الثمن المدفوع لقاءه بخسًا، بينما في الواقع يتجاوز كونه جريمة سياسية. عمومًا، لن يكون في المحصلة أكثر من جريمة تضاف إلى سلسلة جرائم تراكمت على مر الزمن، ليست أقل من خيانة للفلسطينيين وللشعوب العربية والبلدان التي وقفت مع حقوقنا والمنظمات التي ساندتنا، هذا ولم نذكر زمنًا طال نحو قرن من الشهادة، وأعمار أهدرتها الخيانة تلو الخيانة، أدت إلى هزيمة تلو الهزيمة.
لا إجحاف في تحميل المسؤولية الأكبر لمصر السادات ومبارك والسيسي، في تخليها عن الفلسطينيين، والاكتفاء بلعب دور الوسيط المحايد، وكأن لا علاقة لها بفلسطين ولا بالمصريين من شهدائها، بينما تاجر النظام في سوريا بهم داخلياً، فحرم السوريين من الحرية والعدالة لأولوية القضية الفلسطينية، ثم أضاف إليها الجولان. أما خارجيا، فبالتحكم بالمقاومة الفلسطينية، وتجييرها لحساباته الإقليمية، كذلك إيران وذراعها حزب الله الذي اتخذ فلسطين والقدس ذرائع لوضع اليد على أربعة بلدان عربية. لم تعتبر فلسطين قضية العرب الأولى، إلا لأن كل دولة نظر إليها على أنها قضية صالحة للاستثمار، أقلها ادعاء الوطنية.
فلسطين الضحية، تعبير لا يليق بفلسطين لكنه واقع الحال، باتت قضية تنشد الإنصاف، في عالم الحقوق فيه عبارة عن فعل القوة، وتوازن القوى، وإذا كانت فلسطين الأثقل في قضايا العالم، لكن الحكومات العربية جعلتها مطية لها، وبلا وزن.
مهما طرأ على القضية الفلسطينية من تعقيدات وتفاصيل واتفاقيات وحروب وأزمات وتراجعات وانتزاع أراض وبناء مستوطنات… فالقضية الحقيقية ما زالت في جوهرها، فلسطين ليست “أرضاً بلا شعب لشعب بلا أرض”، إنها احتلال تم بالقوة، وانتزاع أرض من أصحابها الشرعيين.
ما يخفف هذه الصدمة أو الصدمات، أن الأنظمة سواء التي طبعت، أو التي لم تطبع بعد، لم تفعل شيئا سوى أنها أشهرت التطبيع فأصبح معلناً، بعدما كان مستورًا، بيد أن الواقع يعلمنا، من الحدث المصري والأردني، أنه مهما فعلت الحكومات فالتطبيع فوق طاقتها، ولا يمكنها التحكم فيه، ألم يحوله المصريون والأردنيون إلى حبر على ورق؟
اليوم تبدأ رحلة شعب الخليج والمغرب والسودان ضد التطبيع، لا نتوقع ولا نتنبأ، هذا السياق ليس هناك غيره، ولو قيل عن هذه الاتفاقيات إنها تاريخية، فليكن، لم لا؟ التاريخ حافل بالخيانات والأوغاد. ومهما كان شأن الذين لهثوا وراء الأنظمة، فالشعب لن ينساق وراءها، هذا ليس كلامًا ديماغوجيًا ولا شعبويًا، التطبيع أو عدمه، يقع على عاتق الشعوب، فلا نلتفت إلى الحكام، إنهم لا شيء في معمعة الصراع، إذ لا يمكن الخضوع لما هو غير حق، ولو كان بالإكراه.
وطالما الشعوب باقية، ففي الضمير تربض الحقيقة، حقيقة إنسانية، لا تتنازل، ولا تنسى، ولا تغفر.