ميشيل سيروب – الناس نيوز
تشهد المملكة العربية السعودية حركة انفتاح على العالم الخارجي وعلى مُختلف التيارات الفكرية. رائد هذه الحركة: المرأة المُتضررة من قوانين عفا عليها الزمن. أما الرجال فما زالوا مسترخين على الأرائك، مُستفيدين من قيم المجتمع الذكوري بتبريرات اجتماعية تارة ودينية تارة أخرى، وذلك لتأبيد خضوع المرأة ودونيتها. تُلقي أميمة الخميس* مسرى الغرانيق في مُدن العقيق** حجراً في البُحيرة الراكدة وتدعونا لإعلاء شأن العقل بحثاً عن التجديد وحرية التفكير.
مُدن العقيق المعجونة بالدماء والعويل، في القرن الرابع الهجري(العاشر الميلادي) هي: بغداد، القدس، القاهرة و قرطبة. أما الغرانيق: فهي تلك الطيور الجميلة المُحلقة نحو فضاءات عالية. كي ندخل في عالم أميمة الخميس الروائي لا بُد أن نتعرف على السُراة العقلانيين الذين يقطنون قمم الجبال الشاهقة دفاعاً عن العقل، والذين ناصروا المعتزلة: أهل العدل والتوحيد.
الرواية عن الصراع الفكري والجدل الدائر بين الحنابلة، ذوي الاِتجاه الديني المُتشدد من جهة، وبين دُعاة التجديد للخطاب الديني (المعتزلة) بعيداً عن نمطية التفكير وجمود العقيدة. هل الرواية تُحاكي ما يجري اليوم من صراع في المملكة بين تيار الوهابية وتيار الدعوة للانفتاح والإصلاح في شتى مناحي الحياة؟ المعتزلة، فرقة كلامية ازدهرت في العصر العباسي نزعتها: العقلانية والتوحيد، قدموا العقل على النقل. أما الحنابلة فهم أتباع أحد المذاهب الأربعة عند أهل السنة، التزموا النص الحرفي في السياق الديني والتشدد في الحياة والتفسير. الرواية تغوص في عالم الفلسفة وعلم الكلام، وتنشغل بالحوار الدائر لغاية اليوم: هل نحن مُسيرون أم مُخيرون؟ أم نحن في منزلةٍ بين منزلتين؟
بطل الرواية مزيد النجدي الحنفي، بائع للكتب، أحد أعضاء تنظيم السُراة السرية، يسعى التنظيم بطرق شتى إلى نشر سبع وصايا لِإعلاء شأن العقل في الفلسفة والتفسير، واعتماد شرح الفلاسفة اليونان بالطب والفلك: أرسطو، بطليموس، إقليدس عِبر ترجمات السريان يقول مزيد متحسراً:” لهفي على مكتبات القساوسة السريان في دمشق، الذين لم يدعوا كتاباً لأمة اليونان دون ترجمة “ص13.
تحث الوصايا مزيد الحنفي على ألا يتردد إذا اختار الطريق الطويل والبعيد، وإن المعرفة لها باب بمصراعين من قلب وآخر من عقل، وإن العالم نور ونار، وألا يجعل بينه وبين الحقيقة سداً أو حجاب، والحذر من مُعاداة العلوم الحكمية، (علوم اليونان) والتوحيد غاية لا تُدرك، وختاماً تنصحه الوصايا: لا تُحوُّلْ الوصايا إلى لاهوت، الحياة أعظم من تعاليم ووصايا. بلغة روائية جميلة يتخللها أقوال للسيد المسيح والشعر والآيات القرآنية والحوارات الفكرية نتلمس جمالية الحكايا في مفردات العشق وجمال الطبيعة ورائحة البرتقال المقدسي وجمال الطبيعة في قرطبة.
وتُعرج الروائية على عنف السلطة وقسوتها بأدوات الجند وممارساتهم القاسية. الأمكنة تلعب دوراً محورياً في السرد، وتكشف عن هوية المتصارعين ومذاهبهم وطوائفهم وتأثير الفلسفة اليونانية عند دعاة الحكمة، كما تتوقف الروائية طويلاً عند أولئك الذين ينعتون الفلسفة بالهرطقة والكفر. أميمة الخميس تتخفى خلف قناع مزيد النجدي النجفي( بطل الرواية) كي تُمرر ما تُريد أن تقوله عن الصراع الدائر بين تيارات مختلفة في بلدها الأصلي، مُستفيدة من وقائع التاريخ والصراعات الفكرية في التاريخ العربي والإسلامي، في أكثر من مكان، كمدن العقيق، تحت إدارة وسيطرة حُكام وأمراء مُستبدين (تتناول الروائية سيرة الحاكم بأمر الله، كحاكم مستبد في مصر) وعن الحروب والفتن في الأندلس بين المروانيين والبربر والعامريين.
تُعلي الروائية من شأن الثقافة والقراءة لتسامي الروح والتنزه عن الصغائر” من قرأ الكتبَ صُقلتْ روحه، وغادرته الخسة والنذالة…وعرف معنى سمو النفس ونبل الأخلاق”ص516. يسقط مزيد الحنفي في غياهب السجن، أسيراً، كسيفاً، مُحبطاً من مدينة لطالما أرادها مُستقراً للفكر، لكن الجُند كانوا يُراقبونه مُنذ أن وطئتْ قدميه أرض قرطبة. لقد أسدلتْ هذه المدينة الستار على الفكر وأخذت بملاحقة الغرانيق.
———————————
*أميمة الخميس: من مواليد 1966 حائزة على دبلوم في الأدب العربي من جامعة الملك سعود، وعلى دبلوم اللغة الإنكليزية من جامعة واشنطن. للكاتبة أيضاً: والضلع إذا استوى، مجلس الرجال، أين يذهب هذا الضوء، والوارفة. ولها أيضاً كتاب في السيرة الذاتية: ماضي، مُفرد، مُذكر. حائزة على جائزة نجيب محفوظ للرواية من الجامعة الأمريكية لعام 2018.
** صدرت الرواية عن دار الساقي في بيروت، وأثارت جدلاً واسعاً داخل المملكة. من دلائل المُشاكسة الفكرية في روح النص، الإهداء في مقدمة الرواية: لواصل بن عطاء ومحمد عابد الجابري. تُرجمت بعضُ أعمالها إلى عدد من اللغات العالمية.