ابراهيم حاج عبدي – الناس نيوز ::
يكشف المسلسل الأمريكي “هيئة دبلوماسية”، الذي بدأت منصة نتفلكس بعرضه، مؤخراً، الكثير من خفايا وكواليس عمل الدبلوماسيين الذين يوصفون بإطفائيي الحروب، والذين يسعون إلى لجم اندفاع العسكريين حتى تستنفد السياسة كل أدواتها.
وعلى عكس الصورة “اللامعة والناعمة ” للدبلوماسيين التي نراها في الإعلام، فإن مسلسل “هيئة دبلوماسية (the deplomat) للمخرجة والمؤلفة ديبورا كان، لا يقتصر على إظهار هذا الجانب الأنيق للدبلوماسية، وإنما يستعرض، كذلك، ألاعيبهم، والمواقف الحرجة التي قد يتعرضون لها، وكيفية تأثير العلاقات الأسرية والزوجية على الدبلوماسيين، وطموحهم نحو مناصب أرفع.
ثمة تعريفات كثيرة للدبلوماسية، ولعل أبسطها أنها “فن التفاوض”، والمرونة في إدارة الأزمات، وهي ممارسة قديمة قدم الأنظمة السياسية الحاكمة.
وعلى المستوى العربي، يمكن أن نعثر على معنى “الدبلوماسية” لدى الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، إذ يقال إن أعرابيا سأله: كيف حكمت الشام أربعين سنة ولم تحدث فتنة والدنيا تغلي؟ فقال معاوية: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها”، وباتت عبارة “شعرة معاوية” دلالة على الحنكة والحكمة والدهاء والمكر والحذر والمرونة واللباقة… وهي كلها صفات يتطلبها العمل الدبلوماسي.
وما يدلل على قيمة العمل الدبلوماسي هو أن الدول تلجأ، لدى تفاقم الأزمات، إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة ما، وهذا الإجراء يأتي غالبا للضغط والانصياع لمطالب معينة.
المسلسل، الذي نحن بصدده، يسعى إلى تجسيد ما سبق ضمن قالب درامي ينطوي على التشويق، ويخلق لدى المشاهد فضولاً لمتابعة تطورات الأحداث المتخيلة، وهو لا يقتصر على إظهار جدية ورصانة العمل الدبلوماسي، وإنما يستعرض، كذلك، مواقف كوميدية طريفة.
حكاية المسلسل تبدأ بتعيين سفيرة أمريكية جديدة لدى بريطانيا هي كيت وايلر ( كيري راسل)، وهي تصل لندن تزامنا مع أخبار عن تعرض سفينة بريطانية في مياه الخليج العربي لهجوم أدى الى مقتل نحو أربعين جندياً، لتتحرك الماكينة السياسية والإعلامية الأمريكية في محاولة لاحتواء الحدث، ومعرفة الجاني، وعلى السفيرة الأمريكية، هنا، أن تلعب دورها الدبلوماسي في إدارة هذه الأزمة، وهو ما يعيد إلى الأذهان مقولة تنسب لوزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر مفادها أن “واشنطن لا تستطيع (أو ليس من مصلحتها) حل أزمات العالم، بل إدارتها”.
محاولات السفيرة الجديدة، التي اكتسبت خبرة من خلال عملها السابق في أفغانستان والعراق، في فهم الواقعة، والبحث عن السبيل الأنسب في التعاطي معها، تقود المشاهد إلى مطبخ القرار السياسي في بريطانيا، وتظهر كيفية تصادم المصالح بين الحليفين التقليديين واشنطن ولندن والذي لا يتناوله الإعلام غالباً.
وتخوض السفيرة الجديدة المعارك على جبهتين، فإلى جانب انهماكها باحتواء توتر النخبة السياسية البريطانية حيال حادثة السفينة، وكبح انفعالاتها في عدم الانجرار إلى سلوك متوتر، فإن عليها كذلك أن تعالج علاقتها غير المستقرة مع زوجها هال وايلر (روفوس سيويل) وهو دبلوماسي محنك دون منصب رسمي، الآن، يرافق زوجته إلى العاصمة البريطانية في مهمتها الشاقة.
تنجح السفيرة في لجم الاندفاع البريطاني في شن حرب ضد إيران التي توجه لها أصابع الاتهام بعد توصلها، بمساعدة زوجها، إلى براءة إيران، ثم تثار الشبهات حول روسيا التي تنفي بدورها تورطها في الحادثة، ليستقر الرأي في النهاية على أن الفاعل هو ميلشيا تابعة لروسيا، والمقصود جماعة “فاغنر” التي لا يذكر المسلسل اسمها الصريح على اعتبار أن العمل متخيل.
هذه الدراما السياسية تقود المشاهد إلى معرفة جزء مما يدور في كواليس وزارتي الخارجية البريطانية والأمريكية، وكيف أن الكثير من السياسيين يتخذون مواقف معينة طمعاً في أصوات انتخابية، فالقرارات السياسية وخصوصاً إبان الأزمات قد لا تأتي بالضرورة منسجمة مع مصالح الدولة، كما يعلن السياسيون، بل قد تكون لحسابات سياسية داخلية.
على أن اللافت في هذا المسلسل ليس هذا الأداء السياسي والدبلوماسي الذي قد يكون معروفاً وشائعاً لدى المشاهدين، بل اقتحام المسلسل لخصوصية الدبلوماسيين، عبر عرض وقائع غير مألوفة، فالنقاشات السياسية بين السفيرة الأمريكية ووزير الخارجية البريطاني أوستن دينيسون (ديفيد جياسي)، تقود إلى إعجاب غرامي متبادل، كما أن مساعدها يرتبط بعلاقة مع موظفة، وزوجها كذلك يمارس “غراميات مرحة” على طريقته.
وإلى جانب هذه العلاقات ثمة مواقف حرجة تسبق تلك الإطلالات الإعلامية المرتبة للدبلوماسيين، في أجواء الفخامة والثراء، كأن نرى مثلاً لطخة لبن على لباس السفيرة قبل مقابلة مهمة، أو التأكد من أن رائحة العرق لا تفوح منها قبل الدخول في مفاوضات معينة، أو تأففها من الالتزام بارتداء أزياء معينة قبل أي ظهور علني أمام العدسات، أو اضطرارها إلى التخفي من حراسها من أجل أداء مهمة سرية.
ويكشف المسلسل كذلك عن نقطة هامة وهي أن الموظفين الدبلوماسيين من الدرجات الأدنى قد يلعبون دوراً، أكبر مما هو متوقع، في صوغ سياسات الدول عبر تقديم تقارير، قد لا تكون دقيقة، وهي التي يعتمد عليها أصحاب القرار في اتخاذ هذا الخيار دون ذاك.
وجاء أداء الشخصيتين الرئيستين وهي السفيرة وزوجها متناغماً إلى حد بعيد، فالممثلة كيري راسل، التي جسدت دور السفيرة، قدمت أداء مقنعاً إلى حد بعيد عبر إظهار الانفعالات المتأرجحة بين الغصب والرضا ورسمت صورة لدبلوماسية أمريكية متفانية في عملها، تبذل جهداً كي تعكس صورة جذابة لبلادها، رغم المصاعب التي تواجهها، سياسياً وعائلياً، كما أن الممثل روفيوس سيويل، الذي قام بدور الزوج، قدم أداء موفقاً عبر تجسيد شخصية تتمتع بالرزانة والهدوء كدبلوماسي مخضرم، فجاء دور هذا الثنائي ضمن تناغم محبب.
يمكن وصف مسلسل “هيئة دبلوماسية”، بأنه عمل مختلف في موضوعه، فالسيناريو، هنا، يذهب في اتجاه يكاد يكون مهملاً بالنسبة للدراما، فقد يكون هذه هي المرة الأولى التي يتصدى فيها مسلسل لعالم الدبلوماسية الحافل بالأسرار، وما يحيط به من ألاعيب ومهارات وإخفاقات، إذ يفصح العمل عن الكثير مما نجهله في دوائر القرار السياسي، ورغم أن العمل متخيل وليس توثيقياً، لكنه يوضح أن العمل الدبلوماسي لا يقتصر فقط على ما نراه على شاشات الفضائيات، بل ثمة جوانب مجهولة لن تصلها عدسات الكاميرا يوماً.