ابتسام شاكوش – الناس نيوز :
أدركوني أرجوكم، موعد عرض الفيلم قد أزف، وأنا في حيرة من أمري، أدور حول نفسي ولا أهتدي، مات مخرج الفيلم وتركني في حيرة من أمري، من أين أبدأ؟ أين أنتهي؟ لست أدري، اختفى مخرج الفيلم واختفى النص الأساسي معه، أمامي مشاهد مفككة، مسجلة على أشرطة مغلفة من الأرقام، لا أعرف كيف أجمعها لأجعلها فيلماً مقنعاً يعرض على الشاشة هل تساعدون؟
تظهر الكرة الأرضية مجسمة كما في المدارس، تقترب القارات من الكاميرا واحد واحدة، تدور الكرة حول نفسها، تتسارع حركتها حتى تتمازج الألوان وتختفي القارات، تظهر بعدها أرض واسعة تحوي بستاناً، البستان محاط بسياج وهمي لا يحميه من شيء. أشجاره اليانعة مثقلة بالفواكه الناضجة يقف مالكه في الزاوية، مصعراً خدّه، ناظراً إلى أرنبة أنفه كأنه فزاعة طيور، في الزاوية الأخرى يظهر الناطور، يروح ويجيء بخطوات قصيرة عصبية، داخل كوخه المصنوع من القصب، يهرش رأسه يفرك كفيه، يفرقع أصابعه، صامتاً لا يتكلم.
في البعيد خلف السياج، ثمة نعاج تتكوم تحت صهد الظهيرة، مطأطئة الرؤوس تستظل بظلّ بعضها البعض والراعي، راعيها، يقف مستنداً بمرفقيه إلى ظهر الحمار، يحتضن ذقنه براحتيه، وعقله غير بعيد، يرسم الخطط والمشاريع، الحمار لاه عنه، تغمر نصف وجهه عليقه ملأى بالشعير، الكون صامت والطبيعة المحترقة بنار الهاجرة تتأهب لحدث جلل، الحمار غير مبال بما كان ولا ما سيكون، مهمته في الحياة يعرفها جيداً، ما عليه سوى السير أمام القطيع حتى يسمع أمر بالتوقف، يتوقف بلا سؤال، لذلك ترونه يجرش حبات الشعير بين أضراسه الصلبة على مهل حتى غدا صوت المضغ خلفية موسيقية خشنة للمشهد كله. شريط آخر: الكلب ينام باسطاً ذراعيه قرب الحمار، يسمع هديراً فتنصب أذناه، يدنو الهدير، ثم يدنو، تظهر سيارة شاحنة صغيرة، جديدة لامعة، ينهض الكلب على قائمتيه الأماميتين خائفاً يقعي بذيله على الأرض، يتراجع إلى الخلف خطوة خطوتين، ثلاثا، تاركاً السيارة تمر حتى تتجاوزه، حين يأمن خطرها، يفتح فمه مزمجراً، يطلق نباحه ويركض خلفها، تفصله عنه مسافة أمان كافية، تتوقف السيارة، ينزل منها رجل منتفخ الصدر، يجر خلفه عباءة مقصبة يبدو أنه صاحب النعاج، يهرول الراعي لاستقباله، يأخذ منه بعض الزاد والثياب، يلقي على القطيع نظرة رضا، ثم يبتعد بسيارته حتى يغيب خلف التلال.
ينتفض الراعي كمن أحس بلسعة، يفصل عدداً من النعاج عن القطيع، يضربها بشدة، يسوقها إلى البستان في غفلة من المالك والناطور، الأغنام تمشي مستسلمة للعصا تعلو وتهبط فوق ظهورها الحليقة حتى تجتاز السياج يتبعها الراعي.
يلتقط الراعي بعض الثمار بسرعة، يضعها في جعبة أعدت لذلك، حين تمتلئ الجعبة يلتفت إلى الأغنام، يضربها بشدة ليعود بها إلى القطيع، وما برح نظره يراقب الناطور، ينتبه الناطور، يجري بسرعة نحو الراعي، يعلو صوت الراعي بالشتائم، يوجهها إلى النعاج متهماً إياها بالغدر، وسوء النية والطويّة.
شريط آخر:
الغنمات تجري مطأطئة الرؤوس كعادتها تحت عصا الراعي، حتى إذا ما التحمت بالقطيع دسّت رأسها بين الرؤوس المنكسة، لا يعنيها لماذا ضربت في طريق الذهاب أو طريق الإياب، وجلس الراعي في ظلّ حماره آمناً، يأكل متلذذاً بما سرقه من ثمار البستان، ويتحول الشريط بسرعة، يظهر الناطور وهو يعود إلى كوخه، حاملاً سلة من ثمار البستان، يخفيها بسرعة ويعود إلى مرصده، ثم تظهر صورة مالك البستان، كمثله في المرة الأولى، مصعراً خده، ناضراً إلى أرنبة أنفه، مبتسماً إلى سرور خفي، فرحا بأشجاره المثمرة وناطوره النشيط .
الراعي يدخل بعدد من أفراد الماشية في البستان، يلتقط الثمار ثم يضرب أغنامه في طريق العودة، هنا يهاجم الناطور بشراسة، يقتطع لنفسه عدداً من الرؤوس يسوقها إلى الزريبة، ويعود الراعي ببقية الأغنام إلى القطيع ولكن . . . . . . لا يبدو عليه الاستياء.
الشريط الأخير:
يخرج الناطور غنماته، الغنمات التي صارت غنماته من الزريبة، يتركها في البستان تعيث به فساداً ويقف ليتفرج عليها ممتلئاً سعادة ونشوة.
هذا ما لدي فكيف أتصرف؟ أرشدوني أرجوكم، لقد أخذ الموت مخرج الموت الفيلم وتركني . . . انتظروا ها هنا شريطاً آخر، سأضعه في آلة العرض لأرى محتواه، إنه شريط صامت فهل أراده المخرج هكذا؟ أم أن الصوت مسجل على شريط آخر؟ لكم أن تحكموا بأنفسكم..
تظهر على الشاشة صورة الراعي والناطور، يبدو أن مفاوضة ما تدور بينهما، الوجهان غاضبان، الأيدي تعلو وتهبط في حركات انفعالية حادة، تدعمها أسارير الوجهين الأفواه تفتح وتغلق، فيما يشبه الصراخ أو الشتائم…
زوم
تتجه الكاميرا إلى الكلب، الكلب يجلس على مبعدة، باسطاً ذراعيه، مغمض العينين، يحلم بزريبة تبردها مكيفات الهواء، مليئة بذبائح جاهزة، يشير إليها فتأتيه طائعة تذوب في فمه (كالصمغ قبل المضغ)، الكلب ينتبه للضجة يشقشق عينيه يرمش بجفنيه، يرى صراعاً لا يعنيه، يغمض عينيه ويعود لأحلامه، تعود الكاميرا إلى الرجلين، تتباطأ حركاتهما بالتدريج تنبسط أسارير الوجهين وينتهي المشهد، بمصافحة حارّة.
أدركوني أرجوكم، ساعدوني على ترتيب هذه المشاهد، ريثما أعثر على شريط جديد، قد تدور الكرة الأرضية عليه وقد لا تدور، قد تتوقف عند نقطة ما لتأخذ القارات شكلاً آخر لست أدري، لكنني في حيرة من أمري مشغول بترتيبها فالمخرج مات كما تعلمون والموعد و . . . .