د. نائل جرجس – الناس نيوز ::
انقضى عقد من الزمن على الأحداث التي تشهدها سوريا، والتي تخللها ارتكاب انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان، بما فيها جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية في ظلّ انتشار ثقافة الإفلات من العقاب. وقد فشلت حتى يومنا هذا كافة الأطراف المعنية بالملف السوري بالتوصل إلى تسوية سياسية يُؤمل منها معالجة ملف هذه الانتهاكات عبر تطبيق أركان العدالة الانتقالية، كالكشف عن الحقيقة ومحاسبة الجناة وتعويض الضحايا أو ذويهم، من ناحية، وإرساء دعائم سيادة القانون التي ستسهم في ضمانات عدم التكرار في المستقبل وتحقيق السلام المستدام، من ناحية أخرى. هذا ويُعرَّف سيادة القانون بأنّه “مبدأ للحوكمة يكون فيه جميع الأشخاص والمؤسسات والكيانات العامة والخاصة، بما في ذلك الدولة ذاتها، مسؤولين أمام قوانين صادرة علنا، وتطبق على الجميع بالتساوي ويحتكم في إطارها إلى قضاء مستقل، وتتفق مع القواعد والمعايير الدولية لحقوق الإنسان”. يقتضي هذا المبـدأ كـذلك المـساواة أمـام القـانون، والمـسؤولية أمـام القـانون، والعــدل في تطبيــق القــانون، والفــصل بــين الــسلطات، والمــشاركة في صــنع القــرار وتجنب التعسف، والشفافية الإجرائية والقانونية. يتبين بالتالي بأنّه يتطلب لإعمال مبدأ سيادة القانون أركان رئيسية ثلاثة، أولها دمقرطة طريقة وضع أو صناعة القانون، ثانياً عدالة القانون وتوافقه مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وثالثاً انصياع الجميع إلى القانون وضمان تطبيقه.
الركن الأول: دمقرطة عملية صناعة القانون
يشمل مصطلح “القانون” بشكل أساسي كل من الدستور – أو القانون الأسمى أو الأساسي – وكذلك التشريعات المحلية من قوانين ومراسيم ولوائح تنفيذية، بالإضافة إلى الاتفاقيات الدولية التي تصبح جزءاً من المنظومة القانونية للدولة التي تصادق عليها. هذا وتتطلب عملية وضع القانون مشاركة المواطنين بشكل مباشر أو عبر ممثليهم المنتخبين ديمقراطياً. بالتالي، لا يمكن فصل مبدأ سيادة القانون عن وجود نظام ديمقراطي ينبثق عن إرادة الجمهور، ويعبّر عن مصالحه، ويرعى حقوقه، ويخضع لمساءلته ومحاسبته، الأمر الذي يؤكّد أهمية مصدر القانون أو الجهة التي تضع القانون.
تختلف في الغالب طريقة صناعة الدستور إلى حدّ ما عن بقية قوانين الدولة. فتتطلب عملية إعداد الدستور بأن يتم إشراك المواطنين بها سواءَ أكان بواسطة ممثّليهم الشرعيين والمنتخبين في إطار جمعية تأسيسية لكتابة الدستور، أو من خلال تعيينهم بطريقة ديمقراطية وذلك في حال عدم إمكانية إجراء انتخابات مسبقة في ظلّ أوضاع استثنائية يشهدها البلد المعني. وفي حال غياب مثل هذه الانتخابات لجمعية تأسيسية، لابدّ على أقل تقدير من أن يتم إشراك المواطنين في العملية الدستورية من خلال التصويت لاعتماد مُسوّدة الدستور باستفتاء حرّ ونزيه، وهذا ما سيكون له أكبر الأثر في تعزيز شعورهم بالمسؤولية في احترام الدستور، فضلاً عن اعتباره بدايةً مرحلة تشكّل قطيعة مع الحقبة السابقة.
لم يتم اعتماد غالبية الدساتير السورية بطريقة ديمقراطية، لا سيما الدستور الحالي لعام 2012. فقد تشكّلت “اللجنة الوطنية” لإعداد مشروع دستور بموجب المرسوم الجمهوري رقم 33 الصادر في 15 أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام. تألّفت اللجنة من 28 عضواً ومظهر العنبري الذي كان أيضاً رئيساً للجنة وضع دستور عام 1973، ومشاركاً بوضع دستور عام 1965، وقد شغلَ العنبري أكثر من منصب حساسّ منذ استيلاء حزب البعث على السلطة عام 1963. ولم يكن العيب فقط بتشكيل لجنة صياغة الدستور، إنما أيضاً بالاستفتاء الذي جرى عليه في جو من الترهيب والتخويف واقصاء المعارضة وارتكاب جرائم وانتهاكات فظيعة. في المقابل، اتسمت عملية صناعة دستور عام 1950 بالديمقراطية، حيث تمّت صياغته من طرف جمعية تأسيسية منتخبة ومشكّلة ديمقراطياً من أحزاب مختلفة، وذلك في 26 نوفمبر/تشرين الثاني من العام1949.
أمّا الجهة التي تضع القوانين المحلية، فهي من المفروض أنّ تكون السلطة التشريعية أو ما يُسمّى بالبرلمان الذي ينبغي تأسيسه عبرَ انتخابات ديمقراطية حرّة ونزيهة في ظلّ بيئة قانونية مواتية، بما في ذلك ضمان الحق في تأسيس الجمعيات والأحزاب، حرية التعبير، المساواة بين المرشحين وبين المقترعين في وزن أصواتهم، فضلاً عن حظر الاعتقال التعسفي والتعذيب، واستقلال القضاء، وغير ذلك من ضمانات سيادة القانون. غير أنّ سوريا لم تشهد خلال العقود الماضية أي شكل من أشكال الانتخابات الحرّة والنزيهة، حيث شكّلت القيود المفروضة على الحريات الأساسية منذ انقلاب 8 مارس/آذار 1963 واستيلاء حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة عائقاً أمام أي ممارسة ديمقراطية وحرمت بالتالي السوريين من المشاركة في اختيار ممثليهم. هذا وتشكّلت تلك القيود بشكل أساسي نتيجة لفرض حالة الطوارئ في يوم الانقلاب، والتي استمرّت إلى حين رفعها عام 2012، غير أنّه سرعان ما استبدلت تشريعات الطوارئ بأخرى شبيهة في إطار مكافحة الإرهاب، تخالف بدورها أبسط معايير الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان. كما ينبغي أنّ ينحصر الحق بالتشريع بالسلطة التشريعية وذلك ضماناً لمبدأ فصل السلطات الذي يشكّل صلب سيادة القانون، غير أنّه يحق في سوريا لرئيس الجمهورية -بوصفه ممثلاً للسلطة التنفيذية- صلاحية التشريع وحتى إمكانية حلّ البرلمان كما سيتبين أدناه.
الركن الثاني: عدالة القانون وتوافقه مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان
تتطلب سيادة القانون بأنّ تتفق كافة القوانين مع القواعد والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، بما في ذلك تحقيقها المـساواة أمـام القـانون والعــدل في تطبيــق القــانون. فتتعارض انتهاكات حقوق الإنسان مع سيادة القانون، وهذا ما أكّده الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي جاءَ فيه بأنّه من الضروري “أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكي لا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم”.
تتعارض العديد من نصوص القوانين السورية مع شرعة حقوق الانسان، بل ويكرّس بعضها ارتكاب جرائم باسم القانون. فتتسم التشريعات السورية بالتمييز بين المواطنين سواء أكان على أساس الجنس وأيضاً عل أساس العرق والدين، مما عزّزَ الشروخات الدينية والإثنية والطائفية بين أطياف الشعب السوري وبالتالي الاقتتال بينهم كما يشهد عليه العقد الماضي. ويتضمن دستور عام 2012 أغلب عيوب الدساتير السورية السابقة مثل سبغه بأيدلوجية الحاكم العروبية ونصوص دستورية ذات صبغة دينية متعارضة مع حقوق المكونات غير المسلمة -كما في المادة الثالثة منه التي تُشير إلى دين رئيس الجمهورية- ويعتبر هذا الدستور جميع السوريين كعرب في ظلّ تجاهل المكونات غير العربية من سوريين وآشوريين وسريان وأرمن وتركمان. بخلاف دستور عام 1950، يتمتع رئيس الجمهورية، بسلطات واسعة جداً، تشريعية وتنفيذية وقضائية، في انتهاك لمبدأ الفصل بين السلطات وبالتالي سيادة القانون. فضلاً عن صلاحياته التنفيذية الواسعة، يحق لرئيس الجمهورية حلّ مجلس الشعب (المادة 111) وإعداد مشاريع القوانين وتولي سلطة التشريع (المادتين 112-113)، ويرأس كذلك مجلس القضاء الأعلى (المادة 133) ويسمي كافة قضاة المحكمة الدستورية (المادة 141).
أمّا على مستوى التشريعات المحلية، فيكرّس العديد منها انتهاكات حقوق الإنسان وأيضاً حصانة الأجهزة الأمنية ضدّ الملاحقات القضائية. فيضمن على سبيل المثال المرسوم التشريعي رقم 14 الخاص بإحداث إدارة أمن الدولة الحصانة لأتباع هذا الجهاز عن الجرائم المرتكبة أثناء تأديتهم الخدمة، حيث جاءَ في مادته 16 بأنّه “لا يجوز ملاحقة أي من العاملين في الإدارة عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكلة إليهم أو في معرض قيامهم بها إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن مدير الإدارة”. وقد سبّبَ أيضاً قانون إحداث محكمة الميدان العسكرية إلى تقنين انتشار حالات الاختفاء القسري وذلك بسبب تنفيذها لأحكام الإعدام بحق آلاف السوريين في ظلّ محاكمات سرية تفتقر للإجراءات القانونية وشروط المحاكمة العادلة، لاسيما علنية الجلسات وحق الدفاع والطعن، وذلك في مخالفة لضمانات عديدة في دستوريّ عام 1973 وعام 2012، وأيضاً لمضمون العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية كمادتيه 9 و 14.
الركن الثالث: تطبيق القانون على الجميع
لا تكفي عملية إصلاح القوانين وضمان عدالتها وعدم تعارضها والمعايير الدولية لحقوق الإنسان لإعمال مبدأ سيادة القانون، بل يتطلب ذلك أيضاً تطبيقها بالتساوي على “الأشخاص والمؤسسات والكيانات العامة والخاصة، بما في ذلك الدولة ذاتها”. ينبغي بالتالي أنّ تتشكل مؤسسات الدولة بطريقة تتمتع فيها بالاستقلالية والحياد والنزاهة والعدل، وأنّ يتم اعتماد إجراءات وآليات على الصعيدين الدستوري والتشريعي لضمان تطبيق القانون على الجميع، لاسيما رفع مراسيم الحصانة عن أجهزة الأمن واستئصال كافة أوجه التمييز بين المواطنين كما هو مبيّن أعلاه.
يعدُّ القضاء الضامن الرئيس لتطبيق القانون بالتساوي وحماية الحقوق والحريّات، بحيث لا يتحقق أيٌّ من ذلك في ظلّ غياب مؤسسات قضائية ديمقراطية. تشكّل المحكمة الدستورية أبرز ضمانات سيادة القانون حيث تعمل بشكل رئيس على مراقبة مشاريع القوانين قبل اعتمادها لاستبعاد ما هو متعارض مع الضمانات الدستورية، كما تنظر بالقوانين السارية لاستبعاد غير الدستوري منها. هذا وبالإضافة إلى العيب المذكور أعلاه في تشكيل المحكمة الدستورية السورية من طرف السلطة التنفيذية، فإنّها لم تقدّم أية مساهمات ملموسة في مجال إعمال مبدأ سيادة القانون، كما تشهد عليها القوانين السورية السارية والمتعارضة مع الدستور. تهيمن أيضاً السلطة التنفيذية على مجلس القضاء الأعلى الذي يترأسه رئيس الجمهورية. يشكّل أيضاً وجود المحاكم الاستثنائية التي تفتقر المحاكمات أمامها لأدنى معايير حقوق الإنسان تعدياً إضافياً على مبدأ استقلالية القضاء ونزاهته.
كما يمكن تعزيز مبدأ سيادة القانون عبر تشكيل هيئات قد يكون لها طابع دستوري لضمان تطبيق القانون وتفعيله. في هذا الإطار، يتطلب السياق السوري تشكيل مؤسسات متعددة منها هيئة لاحترام وتعزيز حقوق الإنسان، وأخرى لمكافحة التمييز بين السوريين، وهيئة للكشف عن مصير المفقودين في إطار تطبيق برامج العدالة الانتقالية.
إنّ مصير سوريا والسوريين الاتجاه نحو بناء سيادة القانون لتحقيق قطيعة مع الحقبة الدامية والعيش بحرية وكرامة. ستكون بالتأكيد التسوية السياسية المأمولة في سوريا أساسية في هذا الإطار، وهذا ما سيتطلب إدراج مجموعة من النصوص ذات الصلة بأركان سيادة القانون المذكورة أعلاه بشكل يمهّد إلى معالجة تركة انتهاكات حقوق الإنسان، من ناحية، وبناء مؤسسات الدولة وقوانينها على أسس ديمقراطية تضمن عدم تكرار النزاعات والانتهاكات في المستقبل، من ناحية أخرى.