سلوى زكزك – الناس نيوز ::
سنين أربع مرت على آخر زيارة لي لولديّ الشابين في فرنسا، بلغ الشوق منتهاه والقلق ذروته، باتت علاقة الخارج بالداخل علاقة إشكالية وثابتة، أهل الداخل متعبون، خائفون من كل لحظة قادمة، يعانون نقصاً في كل شيء، حتى بالتعبير عبر اللغة، تصل أجوبتنا مكررة، مقتضبة، هم، أي أهل الخارج، متأكدون بأننا نكذب وندعي الصحة والسلامة والأمان، لكن الأخبار تكشف كذبنا، تكشف هشاشة قوتنا حين نسقط فجأة في فخ البكاء الصارخ كالعويل، لنختم الاتصال الهاتفي بعبارة: “نحنا مو ملاح أبداً”!
في يدي يرقص جواز سفري السوري المجدد حديثاً لست سنين قادمات، تجديد استهلك أعصابي لمدة تتجاوز الشهور الخمسة، يوم حصلت عليه مشيت في شوارع دمشق ونبضات قلبي وصلت ما فوق المئة نبضة في الدقيقة، أدقق في تاريخ الانتهاء ولا أصدق، لا أفلت جواز السفر من يدي حتى أصل البيت، أنا بحاجة فعلية للتأكد من أنني فزت أخيراً وفعلتها، نعم لقد فزت! وهذا الفوز هو الخطوة الأولى نحو اللقاء، خطوة تحتاج شهوراً لتلامس الأرض الصلبة وتمنحني شعوراً بالقوة والثبات، بات لي جناح إذن، هو جواز سفر ممدد، والجناح الثاني للقاء هو تأشيرة الدخول إلى فرنسا! سأطير!! عبارة وسمت كل مدة الانتظار الطويلة، امتنعت فيها عن الخروج من المنزل خوفاً من التقاط عدوى الكوفيد، وضبت حقيبة السفر ألف مرة، غيرت ملابسي التي سترافقني عشرات المرات، أحصيت وزن الحقيبة وجودة حفظ المأكولات وخاصة المكدوس، والأهم أنني أدمنت الانتظار وساكنته، فبات شريكي اللدود.
وجاء اليوم الموعود، في المطار تدقق الموظفة في جواز سفري بريبة، ريبة تكسر اطمئناني وفرحتي، تعاين صفحات الجواز كله، صورتي الشخصية، سماكة الجواز وربما ترتيب رمز ما؟ لا أفهم شيئاً! تطلب مني الانتظار، تنادي موظفاً آخر، يعيد عمليات التدقيق مرفقة بأوامر مقتضبة: ارفعي الكمامة! أعيدي ارتداءها، انزعي الكمامة مرة أخرى، حدقي مباشرة في وجهي، أعيدي الكمامة، ركزي عيونك مباشرة تجاه الكاميرا، يتحول القلق إلى غضب، تبدل الوضع وأصبحت متهمة! بماذا لا أدري؟ امرأة سورية بجواز سفر مجدد حديثاً وصالح لمدة ست سنين كاملة، وعليه تأشيرة دخول شينغن إلى فرنسا ودول الشينغن! يبدو الأمر غير قابل للتصديق بالنسبة لهم، لابد أن التأشيرة مزورة، يحضرون مكبراً، يدققون أكثر في التأشيرة، يطلبون مكبراً أكبر، أتذكر درس التشريح في المدرسة ولحظة التعرف الأولى إلى خطوط ورقة مكبرة، أستعيد لحظة الاكتشاف الطفولية بخوف يوازي الانكشاف، لماذا كل هذه الشكوك، يطلبون مني الانتظار، صعد جميع الركاب إلى الطائرة وأنا أنتظر.
رجال ونساء وأطفال بجوازات سفر يمرون أمامي، يعبرون خلال ثوان قليلة، وختم العبور يزين صفحات جوازات سفرهم، وصمة اللجوء تستدعي الشكوك، فيزا مزورة، جواز مزور، صورة مزورة، كل الاحتمالات مؤكدة فقط لأنني سورية، وعلى إحدى صفحات جواز سفري تأشيرة خروج إلى فرنسا!
يبدو وضعي غير قابل للتصديق، لا أملك جنسية أخرى غير الجنسية السورية، ولا إقامة دائمة أو مؤقتة في بلد أوروبي، ولا تأشيرة خروج لوظيفة رسمية، لا أملك تأشيرة خروج صالحة لسنوات عدة، يتعقد اللغز! يكاد الموظف أن يسألني: كيف حصلت على هذه التأشيرة؟ تنعكس هنا الصورة العامة للسوريين والسوريات في إجراءات السفر، يبدو بل من المؤكد أن موظفي المطارات قد تلقوا تعليمات خاصة للتدقيق بجوازات السفر السورية، ألوذ بالشوق أملاً بأن ألحق الطائرة التي كادوا أن يغلقوا أبوابها دوني، يأتي موظف ثالث، يمسك جواز سفري بطريقة خبيرة، لكنها استعلائية وجنائية، يفرد الصفحات برشاقة، يعيد التدقيق عبر المكبر، يغلق جواز سفري ويقيس سماكته، يراقب خطوطاً متتابعة على صفحاته وهو مغلق، بين الفينة والأخرى يوجه لي نظرات تدرب عليها جيداً وكأنه يقول لي: “لقد كشفتك”!
ألوذ بالصمت مع أن الكلمات تتزاحم على شفتي، أرغب بالصراخ، هل أنا متهمة فقط لأنني سورية؟ بكل جوارحي أتمنى بأن أصرخ في وجوههم وأقول لهم: وكأنكم بهذه الإجراءات تفرضون علي أن لا أعود كي لا يتكرر إذلالي على بواباتكم الحدودية مرة أخرى، تستهلك تصرفاتهم قدرتي على الصمود، أشعر بعطش شديد، ساقاي ترتجفان وأتمنى أن أطير لألحق بالطائرة، يستل ختمه كالسيف المنقض على قلبي لنحره، يختم بالحبر الأزرق، لا يعتذر عن وقتي المهدور بالترقب والخوف، لا يعتذر عن شكوكهم غير المحقة، ولا ينصفني بكلمة تثبت لي أنني صادقة ولم أستعمل تأشيرة أو جوازاً مزوراً، لا يقول لي: “بون فوياج”، أو سفرة سعيدة، أهرول نحو باب الطائرة، يتسارع نبضي، لدي رغبة عارمة بشتمهم كلهم، تتسلل قطرات العرق إلى جبهتي وإلى كامل جسدي، يضيق صدري وأكاد أن أختنق.
في الطائرة يبدو كل شيء منته، لا مكان لحقيبة يد في صندوق الطائرة، ومكاني شغلته حقيبة سيدة اطمأنت بأن مقعدي شاغر، كل شيء بدا وكأنه غير جاهز لاستقبالي، أخلع سترتي لأني لم أعد أحتمل النوبات الحارة لنقص السكر نتيجة التوتر، أطلب من المضيفة تأمين مكان لحقيبة اليد، تقول بما يشبه الاتهام: أنت متأخرة جداً! أرغب في البكاء، تزيح الراكبة حقيبتها عن مقعدي وهي تقول في قلبها ممتعضة: “شو جابك بآخر لحظة”؟
أجلس وأنا أرتجف، أطلب ماء، وقبل وصوله أغرق في نوبة من الإقياء، تقيأت أحشائي وفرحة اللقاء وفرحة تجديد جواز السفر والحصول على التأشيرة، تقيأت روحي على الحدود، واستسلمت لنوبة بكاء لم تتوقف حتى موعد وصولنا لنقطة حدودية جديدة وقاهرة أيضاً.
أكره الحدود وجوازات السفر ومحطات العبور والمكبرات وأجهزة البصمة والكمامات، والكاميرات، أكره الشوق لأنه يقيدني ويقتل في كل محفزات اللقاء، فقط لأنني سورية، تلاحقني وصمة اللجوء ويصير جواز السفر تهمة والشوق إعاقة.
سلوى زكزك – ناشطة سورية مدنية إنسانية .
دمشق \12 مارس/آذار 2022