نشمي عربي – الناس نيوز ::
غالباً ما كان يراودني سؤال مهم …
هل بدأت المفاعيل التي قادت لثورة الشعب السوري حقاً في آذار 2011 ؟
للجواب على هذا السؤال أجدني مضطراً للعودة إلى درعا، تلك المدينة التي انطلق منها حراك التغيير السلمي ( على الأقل في بداياته ) قبل أن تنضم إليها شقيقاتها من مدن سورية.
ماحدث في درعا معروف للجميع، وشهوده وأبطاله من كل الأطراف لازالوا أحياء يرزقون، باستثناء اولئك الذين غيبهم رصاص قوات الأمن والجيش ومن ثم الفصائل والميليشيات من كل الأطراف في وقتٍ لاحق، كذلك الذين قضوا في أقبية القهر والتعذيب .
أمر هام ومفصلي لا يمكن تجاهل مغزاه ودلالاته حدث أوائل أيام الحراك في درعا هو ما يعيدني إليها اليوم.
عقب خروج وفد أهالي درعا من مكتب رئيس فرع الأمن السياسي بعد لقاء مهين وصادم لم يكتف فيه برفض كل مطالبهم بإطلاق سراح أبناءهم رغم كل تعهدات الأهل بعدم المساس بهيبة النظام، بل أساء فيه لكل معاني الكرامة والرجولة لديهم ( تفاصيله معروفة ويندى الجبين لإعادة ذكرها ) و بين 19 و24 من الشهر نفسه عمّت التظاهرات عموم حوران، وكان من اللافت جداً أن غالب الشعارات التي رفعها المتظاهرون لم تكن تنادي بإسقاط النظام ولا الرئيس ولم تتعرض أبداً لأي مسؤول عدى المسؤولَيْن المَحَلْييَنْ المُتَهَمَيْنِ بالفساد، ( المحافظ ورئيس فرع الأمن السياسي ).
الإستثناء الوحيد كان رامي مخلوف الذي هتفت الجموع الغاضبة ضده وضد فساده، ولعله من اللافت جداً أن هذه الجموع الغاضبة نفسها قامت بتكسير مقر الحزب الحاكم و مكاتب شركة (سيرياتل) للاتصالات والعائدة ملكيتها لآل مخلوف.
أستند في إعادة قراءتي لهذا الحدث اللافت والمهم لتقاويم جمهور ( الموالاة ) دون غيرها ، فحسب تقويماتهم لم تكن ( المؤامرة الكونية الأمروصهيونية الوهابية السلفية العثمللية ) قد بدأت بعد، ولعل زوجة أحد أذكى دبلوماسيي الأسد الرفيعين وقتها كانت الأوضح في وصفها خلال لقاء إجتماعي لما يجري بأنه ( مجرد “تحرك رعاع” … ليس إلا..) !!!
( تقتضي الأمانة أن أذكر أن زوجها السفير رفض هذا الوصف قائلاً: الشعب السوري كله شعبنا ).
بعفوية شديدة لم يجد أهالي درعا رمزاً يتجسد فيه فساد الدولة مع قمعها وتعسفها أكثر من شركة سيرياتيل أيقونة امبراطورية فساد آل مخلوف ….
خسر بشار الأسد حوران التي أنتجت مالايقل عن ربع قيادات البعث منذ أيام اللجنة العسكرية وحتى رحيل الأسد الأب لغرور ورعونة ضابطٍ مغمور ما كان ليتجاوز رئيس قسم في فرع المدينه في دمشق للأمن السياسي أيام حكم أبيه، كان يحتاج لوساطات عائلية طويلة ليتمكن من مقابلة باسل الأسد الذي ما كان يكن لنجيب أي ود.
أُذَّكِرْ أيضاً أن الإعلام العربي ( من الجزيرة إلى العربية وما بينهما ) كان يمارس حتى تلك النقطة تعتيماً على ما يجري في درعا و سوريا كلها وكأن شيئاً لم يكن.
لماذا رامي مخلوف ؟
ولماذا سيرياتل ؟
لعله الضمير الجمعي لأهالي حوران الذين ضاقوا ذرعاً بسياسات حزب البعث الذي كانت حوران دائماً تربة خصبة له؟
اقترن في وجدانهم بفسادٍ رهيب من طرف رئيس الأمن السياسي هناك الذي أمعن وأوغل في التعدي على أرزاقهم ووسائل حياتهم ومعاشهم على تواضعها ؟
توَّجَّ عاطف نجيب ( السنِّي سليل آل مخلوف من طرف الأم ) ذلك كله بحالة لاإدراك غبي ( ملؤه الغطرسة والغرور ) لتركيبة الحوراني النفسية التي ينتهي صبره الطويل فيها عندما تذل كرامته بالطريقة التي تعامل معهم بها …
طريقة أقل مايقال فيها أنها تخلو من أي حس أمني، حتى لا أقول وطني أو إنساني …
فساد آل مخلوف لم يبدأ مع تولي بشار الأسد سدة الحكم خلفاً لوالده، فمع تولي الأسد الأب للسلطة في سورية قام بإحداث نقله نوعية في حياة نسيبه محمد مخلوف نقلته من موظف مغمور في مؤسسة الطيران السورية لتضعه على رأس مؤسسة حصر التبغ والتنباك ( الريجي )، منجم الذهب الذي يتحكم بأسعار شراء تبغ فلاحي الساحل الذي يشكل محصوله بالنسبة لهم مصدر دخل رئيس يعتاشون عليه، وهي الوكيل الرسمي لكافة شركات التبغ الاجنبية في القطر .
بقدرة قادر استطاع محمد مخلوف أن يحول الجزء الأهم من هذه الوكالات لتصبح وكالات حصرية له هو ..!
لينتقل محمد مخلوف بعدها ليصبح مديراً للمصرف العقاري المتحكم بقروض العقار وليبدأ فصل آخر من فصول الفساد المالي الرهيب.
ثلاثة أمور لافتة لابد من التوقف عندها لدى الحديث عن “الظاهرة المخلوفية” في سورية:
أولها أن هذه الظاهرة أيام الأسد الأب كانت تتمثل بشخص محمد مخلوف فقط، ومن خلال ما أسند إليه من مناصب مارسها بشخصه.
ظاهرة ( الآل ) ماكان لها أن تتحقق في عهد الأب.
حتى بعد خروج رفعت الأسد وإنشاء الحرس الجمهوري وتسليمه لابن عّم محمد مخلوف عدنان، ( الذي و للمفارقه لا يكن أي ود لمحمد مخلوف ) إلا أن ظاهرة “آل مخلوف” كمنظومة فساد متغولة على النظام نفسه ما كانت أبداً كما شهدناها فيما بعد مع تسلم الأسد الإبن.
ثانيها هو أن فساد محمد مخلوف أيام الأسد الأب رغم إمعانه وتغوله إلا أنه لم يكن مطلقاً وبلا حدود وكان يتم من خلال النظام ولم يكن اختصاراً له كما حدث لاحقاً مع الأسد الابن.
ثالثها هو أنه لم يكن لهذا الفساد أيام الأب امتداداته وتفرعاته ليسيطر على شرايين النظام الأمنية والسياسية والإقتصادية إلا من خلال ما يرسمه ويقرره هو، وذلك لأن الأب كان من الدهاء بأن أطلق يد أقرباؤه في فساد ريعي ونفعي ولكنه ( باستثناء ظاهرة رفعت التي أنهاها هو لاحقاً ) لم يسمح لأي منهم بالتدخل في شؤون الحكم الفعلية، حتى أخاه جميل عندما تمدد أكثر من اللزوم من خلال جمعية الإمام المرتضى بما صار يشكل خللاً في توازن دقيق أداره الأب بحذر شديد، لم يتوانى عن إغلاق الجمعية ومصادرة أصولها.
مذهب الأسد الأب كان واضحاً وصارماً وغير قابل للمساومة، الفساد الريعي النفعي للعائلة مسموح به ضمن نواميس دقيقة يحددها هو، ولكن شؤون الحكم وكل ما يتعلق بها يعود له، وله وحده، وصار أكثر تشدداً في ذلك بعد أن نجح ببراعة وصرامة بإنهاء ظاهرة شقيقه رفعت.
طبعاً هذا لا ينفي حقيقة تداعي الكثير من مسؤولي الأمن والحزب والدولة للتنافس على التبرع بتقديم خدماتهم من خلال مواقعهم لتلبية طلبات محمد مخلوف أو أي من أفراد عائلة الأسد وأقرباءهم ولكن ذلك بقي في إطار تبادل المنافع والنفوذ الذي لم يستطع أن يترسخ بالشكل المنهجي الأخطبوطي الذي رآه الناس بعد عام 2000، فما التغيير الذي حدث مع تولي الأسد الإبن للرئاسة ؟
قبل أن أنتقل لرصد معالم “الظاهرة المخلوفية” في عهد الأسد الإبن لابد من الإشارة لمجموعة نقاط مهمة في هذا الإطار:
أولها، أن قضية الفساد في عهد الأب، كما قضية الطائفية، لم تكن غايةً بحد ذاتها، ( على الأقل في مفهومه هو ) وإذا استثنينا قضية أموال النفط التي كانت تودع في حسابات خاصة دون المرور في ميزانية الدولة، فإن ظاهرة الفساد كانت في الحقيقة وسيلة من وسائل الحكم، لا تنفصل أبداً عن مجموعة تكتيكات أخرى كان يستخدمها الأب في ترسيخ وتثبيت حكمه، وحكمه هو فقط.
فمن خلال أعاطي ومردودات الفساد كان يتم شراء الولاءات، ومكافئة اولئك الذين يدعمون سلطة الأب، وفِي الوقت عينه تتم فتح ملفات تجرمهم وتدينهم، تنام هذه الملفات قريرةً في أدراج مكاتب ضباطه الثقاة، ولا يتم إيقاظها إلا بتوجيهاته هو، وهو وحده، وفِي الوقت الذي يختاره، نظام معقد ومركب الكل فيه مستفيد، والكل مدان، وعرضةً للمحاسبة في اللحظة التي يفكر فيها بالخروج على هذه المنظومة الدقيقة.
الأمر الثاني هو أن المستفيدين، كما المحرومين، في لعبة مزاوجة الحكم بالفساد هذه، كانوا في الحقيقة من كافة الطوائف والمنابت والاتجاهات والقوميات، لا يفرق أو يمايز بينهم إلا مقدار مايشكله المعنيون من عامل إستقرار لحكم الأب من عدمه.
منظومة ميكافيلية معقدة كهذه كانت بلاشك عابرة للطوائف والإثنيات والطبقات، بل يصح القول ( للطرافة السوداء ) أنها كانت تجمع بين الضابط العلوي والتاجر الدمشقي والصناعي الحلبي والمتنفذ القروي و و و و … دون استثناء أو إقصاء، حتى أصبحت سمة من سمات مجتمع ( التقدم والإشتراكية ) الذي بشر به الحزب القائد وأمينه الخالد ..!!
كان هناك بالطبع تفاوت قد يكون أحياناً صارخاً في مقدار حصة البعض من الكعكة على حساب بعضٍ آخر ولكن هذا التفاوت ماكان ليصبح عائقاً أمام تقدم عجلةِ فسادٍ ماحق لا يقف في وجهه شيء.
كانت هناك دوائر غير مرئية بالعين المجردة ولكنها محسوسة عند كل ذي بصيرة، فالدائرة الأهم والأكثر نفوذاً واستفادةً كانت بلاشك دائرة العائلة القريبة ومن ثم البعيدة، تليها دائرة كبار ضباط الجيش والأمن، ثم دائرة كبار مسؤولي الحزب والحكومة والمنظمات الشعبية.
هذه الدوائر العابرة للطوائف والإثنيات كانت تستفيد كلٌ بقدر معين، ولكن كانت بدورها محور لدوائر أكبر منها تضم العديد من التجار والمقاولين والصناعيين والحرفيين، الذين هم بدورهم لهم دوائر أكبر تحيط بهم لمجموعات وزمر من الموظفين والمريدين والأتباع …. الخ
خلاصة الأمر أن هذا الفساد المنهجي الموجه والمحسوب بدقة، كان في أحد أشكاله عاماً وشاملاً لكلٍ بقدر ، و حسب موقعه ونفوذه ومقدار تأثيره في ميزان حسابات سلطة الأسد الأب.
كان من المهم الإشارة لذلك لأننا حين ننتقل لمتابعة صعود ظاهرة ( آل مخلوف ) مع تسلم الأسد الإبن سنرى أن كل هذه الدوائر سيطاح بها كما تطيح ريح عاتية ببقايا أوراق خريف متساقطة على الأرض، لصالح دائرة واحدة ووحيدة فقط، اختصرت كل آليات الفساد السابقة الذكر فيها وحدها، لاقبلها ولا بعدها، هكذا تماماً كان مجيء ظاهرة آل مخلوف في عهد الأسد الإبن وبهذا الشكل الذي ماكانت لتأخذه بهذه الحدة في عهد الأسد الأب.
في عهد الأسد الإبن صار من العادي جداً أن يتم استقبال فعاليات حكومية وخاصة، خليجية وأجنبية، وعلى أعلى المستويات، مهتمة بالإستثمار في سورية، ليتم تحويلها بتوجيه رئاسي لمقابلة رامي مخلوف والإتفاق على كافة التفاصيل معه، أمر أصبحت معه زيارة قصر المهاجرين، أو رئاسة الحكومة، أو أي من الوزارات المعنية، شأناً بروتوكولياً محضاً ليس إلا، وسرعان ما أدرك الجميع ( في الداخل والخارج ) فحوى الرسالة، رغم الإستهجان الشديد لها.
يمكن للمهتم أن يحصي حالات لا متناهية لرجال أعمال خليجيين وعرب وأجانب، ولهيئات استثمارية خليجية وعربية ودولية، لا بل ولوفود حكومية ورسمية خليجية وعربية وأجنبية، تم تحويلها لمقابلة رامي مخلوف مشفوعين بالعبارة المعهودة ( للإتفاق على كافة التفاصيل معه )، الأمر الذي خلق في حالات عديدة الكثير من الإستهجان والإستغراب لدى العديد من هذه الفعاليات والهيئات وحدا بالكثير منها للعدول عن فكرة الإستثمار في سورية بالمطلق.
بنفس الوقت كانت ظاهرة ( الآل، … آل مخلوف) تأخذ أبعاد جديدة لم تكن موجودة أيام الأسد الأب، وهي التمدد باتجاه عالم آخر غير عالم المال، ليبدأ نجم آخر من ( الآل ) بالصعود … وسريعاً … ولكن هذه المرة في الأمن … ليصبح ( فوفو … كما كان يحلو لأبناء عمته مناداته ) حافظ مخلوف … الضابط ذو النفوذ الواسع، وربما الأوسع، في إدارة المخابرات العامة، وصولاً لرئاسة القسم 40 بالجسر الأبيض، والتابع للفرع الداخلي، والقابض بدورياته على العصب الأمني للعاصمة دمشق، وبصلاحيات مطلقة، وعلاقة مباشرة برأس النظام تتخطى كل التراتبية الأمنية والعسكرية، كما سيتضح لاحقاً بعد بدء التحركات الشعبية في آذار 2011 عندما تصدى حافظ مخلوف شخصياً لأي محاولة حل يعتمد طرقاً أمنية ولكن بالموازاة مع بعض الخطوات الإصلاحية البسيطة، موقف حافظ مخلوف من محاولات كهذه أطاح بشخصيات وازنة من النظام كانت تسعى لحلول كهذه.
عندما تحدث الشيخ حمد بن جاسم بن جبر منذ أيام لجريدة القبس الكويتية ذكر أن بشار الأسد في مرحلة ما، كان يفكر في التنحي، ثم انتقل ليأخذ موقفاً متشدداً.
أتفق مع هذه الفرضية، وأختلف مع ماتم تداوله من قبل العديدين فيما بعد بأن والدته كانت وراء هذا الموقف المتشدد.
اختلافي مرده لسبب بسيط جداً يعلمه من كان على تماس مع الدائرة المقربة من العائلة، وهو أن والدته في هذه المرحلة وربما في وقت سابق عليها كانت قد وصلت لحالة صحية ونفسية لاتسمح لها باتخاذ أي موقف، بل ربما كانت بدأت رحلتها مع مرض الزهايمر.
كذلك جرى تداول العديد من الروايات حول دور لشقيقه ماهر في تبني هذا الموقف المتشدد، وهذا غير صحيح أيضاً، فالعارفين ببواطن الأمور يعلمون تماماً أن الشقيق لم يكن له أي دور سياسي في أي مرحلة على الإطلاق، لا يتعارض ذلك مع الدور الحاسم لفرقته الرابعه ( التي كان قائدها الفعلي وليس الرسمي بعد ) في مواجهة أي حراك ضد النظام.
فلمن يدين السوريون في هذا الموقف المستجد الذي دفع الجميع ثمنه على مدى أحد عشر عام من الجمر ؟
إنهم ال ( الآل ) … آل مخلوف نفسهم ،
لقد كانوا ببساطة ضد التنحي أو أي حل غير أمني لأن ذلك كان يعني لهم إغلاق دكان كبير اسمه سورية، كونوا ثرواتهم الخياليه من عرق أبناءها.
أَحَدَ عَشَرَ عاماً مرت، والمشهد السوري لا ( آل ) فيه اليوم و لا ( مآل ) …
أَحَدَ عَشَرَ عاماً ذاق فيها السوريون كلهم مالم يذقه شعب على وجه البسيطة.
رغم ذلك كله، الشعب السوري قال كلمته التي لارجعة فيها.
تجاوز الشعب السوري (( أَحَدَ عَشَرَ عاماً، والجَمرَ والقَهرَ به متربصين ))
ولاعودة للوراء.