أحمد عزيز الحسين – الناس نيوز :
شعريّـة الاستهـلال
ينفتح الخطاب الرّوائيّ في رواية (تفسير اللّاشيء) للرّوائيّ السّوريّ فوّاز حدّاد (رياض الرّيّس للنّشر- بيروت- 2020) على وصف بانوراميّ للمكان الذي يتحرّك فيه المفكّر صاروف، ويرشح الوصف بهيمنة المكان عليه، وتضاؤُله أمامه إلى الحدّ الذي يظُنُّ فيه أنّه غير مرئيّ، ويشِي الوصفُ بغربته وضياعه، ويلاحق السّردُ وصفَ صاروف وهو يتحرّك في المكان حركة تدلّ على التّيه والاستلاب، ويقف على الحادث المروريّ الذي كاد يُودِي بحياته. ويحرص الرّوائيّ، في بداية الاستهلال، على تقديم صاروف واصفاً مظهره الخارجيّ محدِّداً علاقته بالحيّز الذي يخترقه، مُغنِياً القارئ عن استكناه طبيعة هذه العلاقة الّتي تنهض على الاغتراب، كاشفاً سببَ ضياعه وتحوُّله إلى كائنٍ هُلاميٍّ لا يُرى، ثمّ لا يلبث أن يعود بنا إلى الوراء مستخدِماً الفلاش باك، فيسرد لنا الوقائع التي أفضتْ به إلى ذلك. ولا تتكشّف سماتُ صاروف للمتلقّي من خلال فعله السّرديّ في المتن الحكائيّ الذي يتحرّك فيه بل تتجلّى من خلال ما يرويه السّارد عنه، وهو ما يجعل صورته البصريّة ليستْ بذات أهميّة في تقديمه للقارئ، ذلك أنّ شخصيّته لا تُستكمَل من خلال التّركيز على مظهره الخارجيّ بل تُستُكمَل من خلال الوقوف على ما اعتنقه من فكْرٍ، وما مارسه من سلوكٍ، وما انتهَجه من آليّةٍ في التّفاعُل مع الشّخصيّات الأخرى.
بنيــة التّــوازي
وقد أقام الكاتب في الاستهلال السّرديّ نوعاً من التّوازي بين الحالة النّفسيّة المتدهورة لـ (صاروف) وبين وصْف المكان الذي دلَّ على الهرم والشّيخوخة، فذكر أنّ وجه بطله مُتغضِّن وظهره منحنٍ، وملامحَ التوتُّر باديةٌ على وجهه، أمّا الأشجار، التي حاذاها في مشيته، فكانت متهدِّلة الأغصان، مصفرَّة الأوراق، تساقط بعضُها للتّدليل على ما آل إليه حالُه في المتن الحكائيّ. كما كشف الرّاوي في المتْن عن القصور السّياسيّ الذي اعتور تحليلَ صاروف لما يجري في وطنه، وعن رغبته في أن يبقى حياديّاً، وألّا يُحسب على أيّ تيّار سياسيّ معارض، أو غير معارض، وأظهر لنا أنّه أباح لنفسه بأن يبقى مستقلّاً وحياديّاً حتّى عندما اعتُبِر الحيادُ جريمةً بين الأطراف المتصارعة، ثمّ بيّن بأنّه انتقد جرائم (الثّورة) بعد حملها للسِّلاح، وعدّ جرائمَها بحقّ النّاس موازيةً لجرائم (النّظام)، ولذلك بدا رجلا خرِعاً هشّاً، وغير مستعدّ للدِّفاع عن أفكاره، وقد حرص على الخلاص الفرديّ، وتنصّل من اتخاذ موقفٍ إنسانيّ واضح ممّا يجري حوله، وتهرَّب حتّى من الدّعوة إلى العدالة، وعدّها مكلِفةً، ولا طاقة له على المطالبة بها، أو الدّعوة إليها، كما هرب من الواقع إلى الفلسفة رغبةً منه في الوصول إلى التّوازُن الدّاخليّ الذي يطمح إليه، وكان يظنّ بأنّه يمكن أن يبقى بعيداً عمّا يحدث حوله من صراعٍ ضارٍ، غير أنّ السّلام الدّاخليّ الذي كان ينشده ما لبث أنْ تقوّض حين شاهد الشّبِّيحة يقتلون عاملا مسكيناً (فعوسةً) بين الأرجل، فانهار عالمُه الدّاخليُّ المنشود، وأصِيْبَ بالكآبة، واعتزل النّاسَ رغبةً في الهروب ممّا رآه، وأفضى به ذلك إلى أزمة نفسيّة ألزمتْهُ الفراش.
مثقّــف فــي قوقعــة
لقد كان صاروف يظنّ بأنّه يمكن أن يصل إلى التّوازُن مع نفسه، ومع العالم من حوله، من خلال انتهاجه الحياديّةَ، والتّقوقُعَ على نفسه، لكنّ التّوازُن الذي توصّل عليه لم يكن سوى توازُن خلَّبيّ لا أكثر، إذ ما لبث أن انهار عقِبَ حادثة قتل العامل المسكين، فتبدّى توازُنه شديد الهشاشة، ولم يضمن له البقاءَ صامداً في عالمه المأمول، وسقط سقوطاً مدوّياً، لأنّه حرص على أن يعيش حالة فصام عن واقعه، وعلى الانزواء في برجه العاجيّ، وعلى ملازمة منزله أملا في أن يحميه من الانخراط في الفضاء الاجتماعيّ العامّ، غير أنّ انفصاله لم يستمرّ، إذ اضطُّرّ إلى الاشتباك مع واقعه بعد موت العامل المسكين، وقد شكّلت هذه الحادثة نوعاً من الزّلزال أصاب حياته الآمنة، وأعاده إلى الانخراط في واقعه من جديد، ليكتشف أنْ لا سبيل له لإدارة الظهر إلى ما حوله كما كان يتوهَّم، وزاد الطّين بلّة أنّ زوجته تخلّتْ عنه بعد أن اكتشفت هشاشتَه وضعفه، ورغبته في الهروب، ولاسيّما بعد أن أعلن أمامها بأنّه لا يؤمن بالعنف، ولنْ يحمل السّلاح أبداً للدّفاع عن أفكاره وقيمه، وأنّ بوسعه الانتظار إلى أنْ ينجلي الصّراعُ عن انتصار أحد الأطراف المتصارعة، وعندئذٍ لم تستطع تحمُّلَ حياديّته، فهجرتْ منزلها، وتخلّتْ عنه، غير أنّه لم يستطع تحليل موقفها تحليلا علميّاً سليماً بل مال إلى المنهج المثاليّ في قراءته وتحليله، وما لبث أن تراجع عن إيمانه بالحريّة عقِبَ هجرها له، معلِّلا ما قامتْ به بقصور عقلها عن استيعاب معنى (الحريّة) الّتي طالبتْ بها، كما رأى أنّ قوىً غير منظورة أملَتْ عليها الحكمَ الذي تبّنته، وأعمَتْ بصيرتها، وجعلتها تصرّ على موقفها، ذاهباً إلى أنّ سبب رفضها له يعود إلى السّحر الأسود، أمّا وساوسها الجنسيّة والشّيطانيّة فقد أرجعها إلى “غيرة الحسّاد ونقمة الأعداء”(ص51). وهكذا تبدّى إنساناً لاعقلانيَّ يسلِّم بما يؤمن به أفراد القطيع حوله من خرافات، ولم تستطع زوجته تحمُّل تخبُّطه الفكريّ واعوجاج تحليله في فهم موقفها، وتسويغاته اللّاعقلانيّة فهجرته مبدّدةً ما أحاط بشخصيّته من اعتداد وخيلاء وعقلانيّة وقدرة على الصُّمود، ولاسيّما بعد أن أعلن غير مرّة بأنّ حياة المثقَّف أو المفكِّر ليستْ رهينةَ الحرب ولا انتصارَ طرَفٍ على آخر بل هي مجرَّد حياة رخيّة سلسة يمكن أن تمضي الهوينى، وتتكرّر على أحسن وجه ممكن من دون أن يكون لها علاقة بما حوله، وبذلك كشف عن وجهه الحقيقيّ أمام الملأ متجاهلاً مآسِيَ غيره، ومضخِّماً مشكلته الصّغيرة إلى الحدّ الذي جعلها تستغرق مساحة تفكيره كلّه.
بيـن هُويّــة متشظّيـة وهُويّــة متحوّلــة
لقد كان صاروف مفكّراً يُعنَى بمشاكل النّاس قبل نشوب الحرب، فإذا به بعد اندلاعها يفقد اهتمامه بهم جميعاً لمجرّد خشيته من فقدان سيطرته على زوجته، كما أنّه كفَّ عن النّظر إلى وحشيّة القوى المنظورة، وغرق في سخافات القوى غير المنظورة، وأمسى خارج الحياة، مّا اضطُّرّ زوجته إلى التّدخُّل لإعادته إليها، وهي التي كانت تعيش معه كظلّه، وتعُدُّ نفسَها امتداداً له، وكانت ترى في زواجها منه مغامرةً فكريّة جميلة يمكن أن تساعدها في إيجاد حلّ للمشكلات العالقة في حياتها وعالمها، ولكنّها أدركت بعد ذلك بأنّها تختلف عنه اختلافاً جذريّاً في تقييمها للواقع من حولها، وفي حكمها عليه، ولذا سعت للبحث عن هُويّتها المتغايرة لـ(هُويّته) القارّة، ولم تكن قادرة على إثبات اختلافها عنه، وإدراكها لـ(هُويّتها) الخاصّة إلا من خلال استبعاده، والتّحرُّر منه، ولذا طالبته بالطّلاق لتوكيد ذلك، لأنّه كان امتداداً لأبيها (الذي كان يحضر في مُتخيَّلها عندما يجامعها)، ولم يكن حضورُ الأب في مُتخيَّلها سوى توكيدٍ على إلغاء ذاتها، ودليل على عجزها عن اتّخاذ موقع في عائلتها يرشح بالاختلاف عن أبيها في عالم الجنسيّة، والأحلام بالنّسبة إلى فرويد ، كما يقول تيري إيجلتون (مقدمة في نظريّة الأدب: تيري إيجلتون- ترجمة أحمد حسّان)، هي أساساً “تحققاتٌ رمزيّة لتمنيّات واعية، وهي مُصاغة بشكل رمزيّ”، كما أنّ عدم انفصالها عن أبيها لم يكن سوى دليل على انفصال ذاتها عن السّيطرة الاجتماعيّة القمعيّة التي حاولت التّحرُّر منها، وباستبعاد الأب من حياتها الجنسيّة وتغيِيْبه كانت سهير ترى أنّها امتلكت ذاتاً مستقلّة، وأنّها تستطيع إقامة علاقة مع الآخرين من موقع الاختلاف عنهم، وهذا يفسّر سبب سعيها للطّلاق وحرصها على المطالبة به، لأنّ نجاحها في ذلك كان يشكِّل عبوراً لها إلى ما يسمّيه لاكان بـ ( النّظام الرّمزيّ)، الذي يُتِيح للفرد أن يحصل على دور مستقلّ في بنية الأدوار والعلاقات الاجتماعيّة الجنسيّة التي تشكِّل العائلة والمجتمع. ولم يكن حضور أبيها في الحلم سوى توكيد على هشاشة هُويّتها، وعدم اكتمال ذاتها، وانحصار شخصيتها في نطاق العائلة، وعدم قدرتها على الانطلاق منها إلى المجتمع الواسع، كما أنّ عدم انفصالها عن أبيها لم يكن سوى دليل على عدم انفصال ذاتها عن السّيطرة الاجتماعيّة القمعيّة التي حاولت التّحرُّر منها من خلال زواجها بـ (صاروف)، لأنّ “الطّفل يتوصّل إلى إدراك هُويّته بصفتها ذاتاً مستقلّة من خلال علاقة الاختلاف مع الذّوات الأخرى من حوله” (المرجع نفسه، ص144). وفضلا عن ذلك، لقد رغبت سهير في التّحرُّر من زوجها لأنّه كان يمثِّل بالنِّسبة لها نموذجاً للمثقّف المتعالي على واقعه، ولذا جسّد تحوُّلها عنه نوعاً من الانتقاد لنزوعه الفكريّ، وقد عكس المبنى الحكائيّ ذلك من خلال تسجيل تراجُع صاروف عن صدارة المشهد الرّوائيّ في القسم الثّاني من الرِّواية، وتقدُّمِ سهير لتتبوّأ موقع الصّدارة فيه، وكان تراجُعه عن تصدُّر الخطاب الرّوائيّ دليلا واضحاً على تراجُع دوره في الواقع الذي يُوهِم به الخطاب الرّوائيّ نفسه، كما كان مكافأة لزوجته على تجاوزها فكره، ومحاولتها التّحرُّر منه في الوقت نفسه.
لقد قام حدّاد بإزاحة صاروف عن تصدُّر الفاعليّة في منتصف الرّواية، وأصبح منفعلاً ومفعولا به في السّرد، وتقدّم للفاعليّة في الفضاء الرّوائيّ فاعلون آخرون، كما أنّه أحلّ محلّه مثقّفاً آخر قُيِّض له أن يصعد إلى صدارة السيّاق الاجتماعيّ الذي يُحِيل إليه الخطاب الرّوائيّ نفسه، وذلك لاعتقاده بأنّ الفضاء الاجتماعيّ الذي يخترقه صاروف لم يعد يعترف بتصدّره هو، فضلا عن أنّ الخطاب الرّوائيّ نفسه لم يعد يتبنّى رؤيته للحياة، ولا آليّة تعامُله معها، وأفضى ذلك به إلى أن يغدو مهمًّشاً في السّرد وشخصيّة هلاميّة في المتن الحكائيّ نفسه.
لقد فرضت الحرب نفسها على النّصّ ليس بوصفها فعلاً بطوليّاً بل بوصفها فرصةً لاختبار وجوديّ لبنية الشّخصيّة ومدى هشاشتها وصلابتها، كما أنّ ما أصاب الشّخصيّة الرّوائيّة من تصدُّع له علاقة بتشظّي الواقع المرجعيّ نفسه، وقد أقام الكاتب نوعاً من التّناظر بين تصدُّع صاروف واختلال دوره الإيجابيّ في السّرد، وما أصاب الواقعَ المرجعيّ من تشظٍّ، وعكس ذلك من خلال إيلاء الاهتمام لفاعلين آخرين تصدّروا واجهة السّرد بسبب الاختلال الذي أصاب بنية الواقع المرجعيّ، وتخلخُل بنية الوطن وتصدُّعها، (وما وازاها من تصدُّع في شخصية صاروف)، بما يعنيه ذلك من تراجع القيمة التي يمثّلها، وهكذا أتيح المجال لمثقّف انتهازيّ آخر هو الفنّان التّشكيليّ كي يتقدّم لاحتلال المساحة السّرديّة التي تركها صاروف بعد أن كان فيما سبق شخصيّة مهمَّشة لا دور لها في حياة الوطن، وما طرأ عليه من تحوُّل. فضلا عن أنّ الخطاب الرّوائيّ عكس نوعاً من الصّراع بين (صاروف / الرّجل البطرك المهيمِن) وبين (سهير/ الزّوجة الخاضعة المستكينة المبهورة بأفكار زوجها)، وقد تجلّى رفضها لأفكاره، وانقلابها على حالة الخضوع والاستكانة التي لعبتها بالعزوف عن حضور جلسات المناقشة مع أصدقائه، والبقاء في المطبخ لإعداد الشّاي وبعض السّندويشات له ولضيوفه. ولا ترشح الجلساتُ التي وصفها الكاتب (أوالرّاوي الذي ينوب عنه) بحضور صوت آخر يُغايِر صوت صاروف، ويبدو صاروف مهيمناً على ما يجري في الجلسات، ومحتكراً للرّأي الآخر، وهكذا فإنّ (صوت الآخَر) لا وجود له في الجلسات، مع أنّ ما كان يطرحه صاروف من أفكار في تلك الجلسات لم يكن يحظى بقبول مُجالِسيه، وقد اتّخذت سهير موقفاً منه، لأنّها اكتشفت أنّه مثقّف بطركيّ متعصّب لرأيه، ولا يحترم آراء الآخرين، ولا ينقاد إلّا لما يُملِيه عليه عقله، واعتدادُه برأيه.
صـوتٌ مهيمِـنٌ وأصـواتٌ ملجومـةٌ
ويبدومن خلال قراءة المسكوت عنه في الخطاب الرّوائيّ أنّ صاروف كان يحرص على تغييب أصوات الآخرين، ويحول بينهم وبين التّعبير عن آرائهم بحريّة، وكان يطرح أفكاره بوصفها الحقيقة التي ينبغي أن يتبنّوها، ولذا لا نلمس في القسم الأوّل من الرّواية وجود أصوات أخرى غير صوته، أمّا الأصوات الأخرى في المتن الحكائيّ فمغيَّبة وملجومة وممنوعة من التّعبير عن ذواتها، وهُويّاتها.
والواقع أنّ (سهير) لم تكن تملك صوتاً موضوعيّاً خاصّاً بها في المتن الحكائيّ، كما قلنا، بل كانت امتداداً لزوجها، وقد ارتبطت به لتأكيد إعجابها بأفكاره، ثمّ ما لبثتْ أن أدركت أنّه مجرَّد منظّر بطركيّ لا أكثر. وقد لاحق الكاتبُ تنامي وعيها وبحثها عن صوتها الخاصّ وهُويّتها المستقلّة، ولم يكن اختلافها عنه في تقييم ما جرى في وطنه سوى دليل على هذا البحث. لقد أفسح حدّاد المجالَ لـ ( سهير) كي تكوِّن صوتها الخاصّ، وتجلّى ذلك باعتراضها على موقف زوجها السّياسيّ (الذي كان دليلا على بداية انفكاكها عنه، وتحرُّرها منه)، وانتهى بمطالبتها بالطّلاق الذي كان دليلا على نضجها ورغبتها في التّحرُّر الكامل، وهكذا فإنّ الزّواج يبدو دليلا واضحاً على تماهيها بـ(الآخر)، أمّا الطّلاق فهو رمز لتحرُّرها وعثورها على شخصيّتها.
وجهـات نظـر ونبـرات لغويّـة
وقد أفسح الكاتبُ المجالَ للشّخصيّات كي تتصارع مُبديةً وجهات نظرها المختلفة، وأتاح لها أن تبلغ أقصى قوّتها ومداها، ومنَحَها المسوِّغ النّصيَّ كي تقنع القارئ بوجهات النّظر التي تتبنّاها، وتسلك في الرّواية المنحى والمسار اللّذين يساعدانِها على الاكتمال، كما أنّه أفلح في ترك مسافة كافية بينه وبينها. وقد كان الرّاوي هو الصّوت الذي اختبأ خلفه الكاتب في النّسيج السّرديّ، مقدِّماً رؤيته لصاروف وسهير بلسانه هو، وبنبرة لغويّة مختلفة عن نبرة صاروف وسهير، ولذا لم يحدث نوعٌ من التّصادُم بين نبرة الرّاوي اللغويّة وبين النّبرتين اللتين تحدّث بهما كلٌّ من صاروف وسهير، كما لم يحدث تطابُقٌ أيضاً، ولهذا بدت النّبراتُ اللغويّة، التي تحدّثت بها كلُّ شخصيّة، مختلفةً عن الأخرى، وترشح بهُويّة صاحبها، وتؤكِّد أنّه مختلفٌ عن الصّوتين الآخرين، وقد أكّدت الصّياغة اللّغوية تميُّزكلّ نبرة لغويّة من غيرها، وكونها سمةً من سماتها. كما لعب الرّاوي دوراً مهمّاً في الرّواية، وأقام مع شخصيّتيها المحوريّتين علاقة حواريّة أفضت إلى معرفتهما، واسكتناه خباياهما، وكان عندما يروي ما حدث معهما يرويه من موقع المشاهِد والمشارِك معاً وليس من موقع المشاهد فقط، ولذلك فهو يفسِّر ما حدث معهما من موقع العارف، لأنّ وجوده خارجهما ساعده على أن يفهم كلًّا منهما بدقّة، ويحلِّل شخصيّتيهما.
وقد تقاطعتْ في (تفسير اللّاشيء) وجهة نظر الرّاوي مع وجهتي نظر صاروف وسهير، وتصادمتْ، وتمّ تصويرُها من قبل الكاتب (الذي ناب عنه الرّاوي العليم) أو من قبل الرّاوي المشارك، بحيث أتاح الكاتب لكلٍّ من صاروف وسهير أن يعبِّرا عن وجهتي نظرهما بموضوعيّة، من دون أن يتنطّع الرّاوي للحكم عليهما. وقد حرص المؤلّف على أن يعرض علينا كلمة الرّواية بوصفها كلمةً موضوعيّةً خاصّة بالبطل، ووظّفها من الدّاخل لخدمة أهدافه، فضلا عن أنّه جعلنا ندرك بجلاء المسافة القائمة بينه وبين الكلمة الغَيْريّة التي جهد في إظهارها.
تركيـــب
أخيراً، أظنّ أنّ هذه الرّواية مبنيّةٌ بناءً فنيّاً مُحكَماً للبرهنة على سقوط المثقف البطركيّ، وهي تشكِّل نقلة نوعيّة في شُغْل صاحبها الفنّيّ، وتؤكّد استمراره في النّهج الفكريّ الذي اختطّه، كما تؤكِّد قدرته الباهرة على كتابة نصوص ثرّة تُعَدُّ دليلا على أنّ صاحبها عاش عصره حقّاً، واتّخذ موقفاً واعياً منه، وكان شاهداً عليه، وقد أحسن الكاتبُ استثمار الطّبيعة في هذا النّصّ بصفتها عنصراً سرديّاً، ولم يُبقِها خلفيّةً ديكوريّةً أو تزيينيّة منبتّةَ الصِّلة عن المتن الحكائيّ الذي شكّله، كما أنّه صاغ سرده الشّفيف مُنوِّعاً في استخدام الرّاوي، ومُوظِّفاً إيّاه لإدانة الرُّؤية البطركيّة التي اتّكأ عليها بطله في صياغة رؤيته الفكريّة، وتسجيل موقفه الرّجعيّ من المرأة، ومن السّياق الذي عاش فيه، وتعالق معه، ومن القضايا الفكريّة التي كانت تشغله، فضلا عن أنّه كان بارعاً في كتابة استهلال سرديّ شائق جذب القارئ، وحرّضه على الولوج إلى النّصّ، بعد أن سلّمه مفتاحاً تواصُلياً لاستكناه الدّلالة المبثوثة في نسيجه، والقبْضِ على المسكوت عنه في فضاء النّصّ المُلغَّـز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقد سوريّ