صيف عام 1976، سمعت بالنتيجة التي حصلت عليها في البكالوريا بعد أسابيع على صدورها، وذلك حين عدت من سفرة أخرى من سفرات العمل الشاق في لبنان، في ظروف الحرب الأهلية التي عصفت بهذا البلد، وبعد أن سلكت طريقاً التفافية لتجاوز حاجز “البربارة” القاتل والتابع لـ “القوات اللبنانية” على طريق بيروت – طرابلس.
وفور وصولي، واجهتني مشكلة اختيار الفرع الذي سأدرسه، بناءً على درجاتي التي تمنحني كل الخيارات. هنا ارتكبت أكبر خطأٍ في حياتي، وقد انسقت وراء ما يريده الآخرون والمجتمع، لا أنا، وهو خيار دراسة الطب البشري، وكأن المجتمع بحاجة للأطباء فقط ليتطور ويتقدم، على أهمية ونبالة دورهم في النظام الصحي. لقد غيّر هذا الخيار حياتي وملأها بالمنغصات، ولم تفلح محاولاتي للتكيف مع دراسة الطب ولا مع معظم الزملاء المتنافسين بلا رحمة في الكلية أو الحياة، وفضلت، كحل وسط، التحوُّل إلى الجانب الطبي الأكاديمي، إلى أن أُسدل الستار على هذا الجانب من حياتي أيضاً وإلى غير رجعة.
هذه ليست مشكلة شخصية وحسب، إنما مشكلة النظام التعليمي السوري ككل، والذي يدفع باتجاه الفروع التي تتمتع بالمكانة المعنوية والمادية، بغض النظر عن حاجات المجتمع ورغبات الطلبة أو إمكانات نجاحهم في هذه الفروع. ثم يفضي التنافس والكثرة العددية في فرع أو اختصاص معين إلى حصول التمايز بين قلة “ناجحة” وأكثرية “غير محظوظة” في ظروفٍ ليس المستوى العلمي وحده هو ما يحدد التخوم الفاصلة بين النجاح والفشل.
وككل المتمتعين بالمكانة الاجتماعية، القائمة على الاعتبارات المادية أو المعنوية، كالأطباء، يتوهم أصحابها بأنهم مميزون، وحتى أنهم يفهمون في القضايا العامة أكثر من غيرهم، طالما أنهم محسودون من قبل الآخرين، الذين يتطلعون بحسرة للوصول إلى مرتبتهم الاجتماعية، بينما هم، في الواقع، من أبرز ضحايا النظام التعليمي القائم على التمييز لا التميُّز، وهو النظام الذي صار في السنوات الأخيرة ضحية إضافية لهمجية الحرب وثقافتها.
يتّصف نظام التعليم المعمول به في سورية بأنه مزيج فريد من الترغيب والترهيب والاجتهاد والتنافس والأنانية، مزيج أنتج ما يُطلق عليه التفوق الدراسي ذا النكهة الخاصة، كنظام مؤسسٍ على إجراءات قمعية يعود تاريخها إلى أيام الدراسة عند الكتّاب (الكتاتيب)، والتي كان الأب، حين يقدّم ابنه إلى شيخ الكتاب، يفخر بالقول: “اللحم لكم والعظم لنا”! من يأخذ اللحم هي العصا بالطبع، وهي العصا ذاتها التي تطورت وتحورت لتنزع اللحم عن العظم، ليس بالمعنى الرمزي وحسب، إنما وبالمعنى الحقيقي للكلمة!
وبالرغم من أدلجة النظام التعليمي منذ أواخر الخمسينات، استمرت، حتى بداية الثمانينات، المحاولات الحثيثة من قبل معلمين أكفاء من أجل إعلاء القيم التربوية وتحفيز التلاميذ على الاجتهاد والتنافس النزيه لتحصيل المعرفة والتفوق، كقيمة مُثلى تفتح الآفاق نحو مستقبل يفترض به أن يحترم الكفاءات. لكن تعزيز عسكرة التعليم وأدلجته (نظام الفتوة)، كمحاكاة لسيادة مفهوم القوة والغلبة، دفع بمعلمين حزبيين، لا يختلفون كثيراً عن عناصر الأمن، إلى صفوف المديرين، ليحلوا مكان المديرين، المربين والناصحين.
في مثل هذا النظام التعليمي، يتمتع الطالب المجتهد والحفّيظ بصفات عدة، وهو الطليعي والشبيبي والبعثي، ومن يتم تحضيره ليصبح أحد أدوات إعادة إنتاج النظام التعليمي، كأُستاذ في الجامعة على سبيل المثال، فيقضي حياته المهنية في التنقّل بخفة بين مقار الحزب وغيرها للحصول على مباركتها، كشرط أساسي لتولي المناصب الإدارية والعلمية. يساعده في ذلك تاريخه النضالي، كعضو سابق في الكتائب المسلحة، واستعداده الدائم لممارسة هذا الدور أو ما يعادله حين يتطلب الأمر، لـ “الدفاع عن الوطن ضد الأعداء الداخليين”، مثلما تم تلقينه وتحفيظه، حتى ولو تطلب الأمر كتابة التقارير الكيدية بزملائه، كضمانٍ له من واقعٍ يعرفه جيداً ولا ضمانة فيه لأحد، وهو فاسد بطبيعة الحال، كونه مضطراً لمراعاة داعميه على الأقل.
مثل هذا الأستاذ، وبخلاف زملاء دراسته الكسالى، كان قد رضع إلى حدّ الإشباع من مفاهيم الثقافة الأيديولوجية السائدة، ثم تحول إلى مردّدٍ لمقولاتها وشعاراتها، يصفع بها طلابه أو مرؤوسيه في المناسبات الرسمية والاجتماعات الحزبية والمحاضرات العلمية، وقد يعمل محللاً سياسياً في إعلام اللون الواحد، مكرراً ما تعلمه وحفظه في الكتب المدرسية ذات الصلة. وفي بعض الأحيان، ربما درّب خلايا ذاكرته على الحفظ في معاهد تحفيظ القرآن الكريم المنتشرة في أنحاء البلاد، المنتقلة من نكبةٍ إلى نكبة، من ضمن آلية التحالف بين الدين والسياسة.
في رعاية مثل هذا النظام التعليمي، يعني الاجتهاد والتحصيل الدراسي أن يشق الطالب طريقة بأي وسيلة، من “سهر الليالي” إلى الاستفادة من مختلف الامتيازات؛ ومنها المكافآت على هيئة درجات امتحانية إضافية لشبيبة البعث، والدرجات الممنوحة إلى طلاب القفز المظلي من طبقة التروبوسفير في غلافنا الجوي، وصولاً إلى النقل والتنقُّل داخل قاعات الامتحانات بلا رادع أخلاقي أو قانوني، طالما أن الهدف هو الحصول على أعلى الدرجات للدخول إلى الكليات التي يتمتع خريجوها بمكانة اجتماعية مرموقة ودخلٍ مادي مُعتبر، حيث يمكن لدرجة واحدة أن تقرر مصير الطالب، الذي قد يحرمه تفوقه، ويا للمفارقة، من تحقيق ذاته في فرع يلائمه ويحتاج إلى ذكائه، كالرياضيات على سبيل المثال، فالنظام التعليمي السائد يقوده في مسارب شبه إجبارية ولا مخرج منها.
وهو النظام التعليمي الذي يهمه الكم على حساب الكيف، الكم الذي قد يكون ضرورياً في بعض الأحيان لتحقيق بعض الاكتفاء خلال مرحلة معينة، ولكنه خاطئ على المدى الطويل، ويهجره الأكفاء إلى أي بلد يقدر اجتهادهم وتميزهم. على سبيل المثال، فإن ما حققه التوسع في التعليم الطبي أواخر السبعينات، عاد وبدده في السنوات التالية؛ بسبب عدم الاستفادة من الطاقات وتسييس التعليم، فتحولت دراسة الطب إلى مجرد جواز سفر للعمل في بلدانٍ أخرى.
وبخلاف النظام التعليمي القائم على التلقين والتحفيظ والأدلجة، تعمل الأنظمة التعليمية الحديثة على العناية بالصحة الجسدية والعقلية للتلميذ والتعرف على قدراته واحترام إنسانيته، والموازنة بين الجانبين المهني والأكاديمي في عملية التعليم، والتعليم المستمر للكبار. وفي هذه الأنظمة، يجب أن يحوز المعلم على التأهيل العالي (درجة الماجستير) لممارسة هذه المهنة الجليلة.
وعلى أمل أن تُطوى صفحة النظام التعليمي الحالي لصالح نظامٍ تعليمي يواكب بناء سورية دولةً عصريةً من جديد.
منير شحود