أمير سعادة – الناس نيوز :
لا تزال قضية أحمد حسون تشغل الرأي العام في سوريا، بين مؤيد لقرار عزله وإلغاء المنصب كلياً من بعده، ومعارض. المؤيدون لقرار العزل هم مشايخ دمشق وعلماؤها، ومعهم وزير الأوقاف عبد الستار السيد، المعترضون على ضعف المفتي وجهله التام في التاريخ وشؤون الفقه، تحديداً بعد ما جاء على لسانه من تحريف للقرآن الكريم خلال جنازة الفنان الراحل صباح فخري. أما المدافعون عنه فهم المسيحيون السوريون، الذين سمعوا كلاماً من أحمد حسون راق لهم وأطربهم، عن التعايش والتآخي بين المسلمين والمسيحيين. هذا الكلام المعسول أثلج صدر المسيحيين، ولكنه لم يقنع ولا مسلماً واحداً بنبذ العنف، أو الوقوف في وجه تنظيم داعش أو غيرها من التنظيمات التكفيرية.
“شطحات” المفتي ليست بجديدة وجميعنا يذكر كيف اجتمع مع حاخام يهودي أمريكي زار سوريا قبل عام 2011، وقال له حسون إنه لو الرسول عارض المسيحيين واليهود، لكان وقف في وجهه وقال: “أنت مخطئ يا محمد.” لم يختلف هذا الكلام كثيراً عمّا قاله حسون قبل أيام، بأن سوريا مذكورة في سورة التين، والذي استخدم ذريعة للتخلص منه. يومها طالب الشيخ أبو الهدى اليعقوبي بإقالته من منصبه وصدرت إدانات كبيرة في حقه من الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي في دمشق ومن الشيخ يوسف القرضاوي في الدوحة. أغضب هذا الكلام مجتمع العلماء بدمشق، الذين كانوا قد اعترضوا على قرار تسمية أحمد حسون مفتياً للجمهورية سنة 2005، خلفاً للمفتي الراحل الشيخ أحمد كفتارو. لو عدنا في الذاكرة قليلاً، لتذكرنا أن المتنافسين على المنصب يومها كانوا الشيخ البوطي نفسه، وهو من كبار العلماء، ومفتي دمشق الشيخ عبد الفتاح البزم، وهو رجل خلوق ومعروف، والشيخ حسام الدين فرفور، وهو من الأسر الدينية الكبيرة، ولم يكن أحمد حسون، مفتي حلب حينها، ضمن قائمة المرشحين لخلافة أحمد كفتارو. وقد تأخر قرار تسميته عشرة أشهر، وفي نهاية المطاف ذهب المنصب لحسون بسبب علاقاته الواسعة بأجهزة المخابرات السورية. والهدف من تسميته يومها كان خطابه المنفتح على الغرب، الذي كانت سوريا بحاجة إليه بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر وفي ظل توافد الوفود الأجنبية على مدينة دمشق بين عامي 2005-2011.
وقد تعالت الأصوات الداخلية المعترضة عليه بسبب ضعفه العلمي، ولكنه أبقي في منصبه لأن الاعتقاد الرسمي السائد كان أنه “مفيد” في التعامل مع الأجانب. ثم جاء مقتل أحد أبنائه في مطلع الحرب ليُطيل من عمره الوظيفي كنوع من المكافأة على مصابه. ولكن وفي مجالس العلماء كانت تعلو الأصوات المنتقدة للمفتي، وكان أعلاها صوت البوطي ووزير الأوقاف، الذين قالوا إنهم بحاجة إلى مُفتٍ قادر على مخاطبة الناس داخلياً، والتواصل مع المشايخ في درعا وغيرها من المدن السورية، لا إلى شخص عديم التأثير على المجتمع السوري. وقد قالوا بوضوح حينها إن أحمد حسون لا يصلح لأن كل مشايخ سوريا لا يقيمون له أي وزن، حيث جرت مقارنة بينه وبين أحمد كفتارو الذي كان على رأس عمله يوم اندلاع المواجهات الدامية مع الإخوان المسلمين في نهاية السبعينيات.
المتعارف عليه هو أن رئيس غرفة تجارة دمشق بدر الدين الشلاح هو الذي أقنع تجار دمشق بفض الإضراب المؤيد للإخوان وفتح الأسواق المغلقة. ولكن وفي الحقيقة ما كان الشلاح أن ينجح بذلك لولا الدعم المطلق الذي تلقاه من أحمد كفتارو. كان المفتي كفتارو من أعيان الكرد في دمشق ومن وجهاء المجتمع الديني أباً عن جد، له كلمة مسموعة ليس فقط في أروقة الحكم بل داخل حارات دمشق القديمة أيضاً. وعندما جاء تعيينه مفتياً عاماً للجمهورية في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1964 لم يكن لأنه صنيعة المخابرات بل بسبب نفوذه الواسع في المجتمع الدمشقي منذ أن كان مفتياً على دمشق في زمن الرئيس هاشم الأتاسي سنة 1951. وكان كفتارو قد ورث الزعامة الدينية عن أبيه الشيخ أمين (المتوفى سنة 1938) وظهر على الساحة منذ أربعينات القرن الماضي، مؤسساً لمدرسة الأنصار الثانوية وخطيباً مفوهاً على المنابر وفي إذاعة دمشق. ولعله من أول المشايخ السوريين الذين توجهوا إلى الإذاعة لبث فكرهم عبر الأثير، قبل الشيخ على الطنطاوي والشيخ راتب النابلسي وغيرهما. وعلى الرغم من أصوله الكردية وتمركزه في حيّ ركن الدين، حيث شب وشاب، فإنه لم يختصر تعليمه على الأكراد بل توجه إلى العرب بقوة ومن ضمن تلامذته المشهورين الشيخ بشير الباني والشيخة منيرة القبيسي مؤسسة جماعة القبيسيات الأشهر في دمشق التي بدأت دعوتها سنة 1964، تحت إشرافه المباشر.
يوم تعيينه مفتياً عاماً للجمهورية سنة 1964 كان الجسم الديني في دمشق لا يزال قوياً على الرغم من الهزات العنيفة التي تعرض لها في زمن الوحدة مع مصر وفي مطلع عهد البعث. وقد تنافس كفتارو يومها مع زعيم الميدان الشيخ حسن حبنكة، وزعيم العمارة ودمشق القديمة الشيخ محمد صالح فرفور، ومع المفتي الذي سبقه الشيخ عبد الرزاق الحمصي (الذي تولّى المنصب لأشهر محدودة ما بين 8 آذار 1963 و4 تشرين الثاني 1964). وقد قرر مجلس قيادة الثورة حينها تثبيته في المنصب لأنه مهادن للعسكر وغير معترض على حكم البعثيين، بل مؤيد لهم، عكس المفتي الذي أقيل في 8 آذار/ مارس 1963، وهو الطبيب أبو اليسر عابدين. وفي سنة 1957، كان له موقف مشهود خلال الانتخابات الفرعية التي جرت لملء شواغر في مجلس النواب، حيث أيّد المرشح العلماني البعثي رياض المالكي (شقيق الشهيد عدنان المالكي) ضد مرشح الإخوان المسلمين الشيخ مصطفى السباعي. وكان هذا الموقف قد ترك أثراً كبيراً في نفوس البعثيين الأوائل، ومنهم صلاح البيطار، الذي أثنى على قرار تعيينه مفتياً سنة 1964، عندما كان هو رئيساً للحكومة في عهد الرئيس أمين الحافظ.
أما أحمد حسون، فلم يكن أحد يعرف عنه الكثير خارج مدينة حلب عند تعيينه مفتياً على المدينة في التسعينات. والده الشيخ أديب كان من الأعيان، وهو مؤسس معهد الفرقان في حلب الذي تنافس على زعامة المدينة مع الشيخ محمد الشامي في الستينات والسبعينات. وبعد مقتل الشامي، استفرد الشيخ أديب بزعامة المجتمع الديني الحلبي، بعد إقالة الشيخ صهيب بن محمد الشامي من مناصبه كافة، ومن هنا بدأ أحمد حسون بالظهور السريع وصعوده نحو الشهرة، نائباً مستقلاً في مجلس الشعب سنة 1990 ثم مفتياً لحلب سنة 1999 وأخيراً، مفتياً عاماً للجمهورية حتى الأسبوع الماضي. لم يعترض أحد على إقالته، ولم يكتب ولا مقال واحد عنه لا من العلماء الكبار ولا من إمام جامع. والجميع أدرك أنه نزل عليهم بالباراشوت، وسحب من المشهد، بالباراشوت أيضاً، لأنه كان كبيراً عليه وفضفاضاً للغاية.