محمد برو – الناس نيوز :
من الإصدارات الحديثة والمهمة للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب “مقدمة مختصرة في العلاقات الخارجية الأميركية”، لمؤلفه أندرو بريستون، وهو مؤرخ كندي، فاز بجائزة تشارلز تايلور لعام 2013 عن كتابه “سيف الروح، درع الإيمان: الدين في الحرب والدبلوماسية الأمريكية”.
يحاول بريستون في هذا الكتاب، عرض مقاربات وإجابات لمجموعة من القضايا المتعلقة بتاريخ العلاقات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، منذ تأسست في نهايات القرن الثامن عشر، وصولاً إلى حربها المشهرة على الإرهاب، والذي حشدت له التحالفات الدولية، وصراعها الأكبر مع المارد الصيني في أوائل القرن الحادي والعشرين، هذا المارد الذي انفلت من قمقمه وصار من المحال وقف تنامي سطوته ونموه الاقتصادي، الذي بات يهدد المصالح الأمريكية في أكبر القطاعات، بل ويهدد استمرار تربعها على عرش التحكم والسيطرة على العالم.
يرصد الكتاب عبر تسلسلٍ تاريخيٍ مراحل الصعود التي مرت به الولايات المتحدة الأمريكية، والعوامل التي ساعدت على ذلك، كما يرصد التطورات الأخيرة التي وضعت تلك الإمبراطورية، في مسارات تنذر بتغييرٍ حادٍ في مؤشرات الهيمنة والقوة المنفردة، وتأتي أهمية هذا الرصد والمتابعة، بسبب ذلك الدور الكبير الذي لعبته الولايات المتحدة الأمريكية، في رسم خارطة العالم الحديث بعيد الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا، وكيف أثَّرت تلك القوة في تشكيل القوى المتوازنة، التي تكفل حداً لازماً من الاستقرار النسبي بين القوى الكبرى، الأمر الذي يبقي الولايات المتحدة المتحكم الأكبر وربما الأوحد في الساحة الدولية، لقد كانت للولايات المتحدة الأمريكية اليد الطولى في تشكيل العولمة، التي بسطت سيطرتها ووسعتها، إلّا أن هذه العولمة ما لبثت أن كان لها أثرٌ مرتدٌ على تشكيل الأمريكيين أنفسهم، على نحوٍ لم يكونوا منتظريه.
يطالعنا الكتاب في فصوله الأولى بالحديث عن حكايات التأسيس، بوصفها نتاجاً لنجاحات الولايات المتحدة في سياستها الخارجية، فقد اشتغل الآباء المؤسسون بدأبٍ منقطع النظير، مدركين أهمية بناء التحالفات وربط المصالح ورعايتها، مفصلاً حكاية التوسع والتحول من ثلاث عشرة مستعمرة، وصولاً إلى الولايات المتحدة الأمريكية بولاياتها الخمسين، وما حدث خلال هذا التوسع من حروب وكوارث إنسانية، تسببت في نكبة وتشريد السكان الأصليين، إضافة لما شهدته حربها مع المكسيك والحرب الأهلية الأمريكية، من أعداد كبيرة من ضحايا تلك النزعة التوسعية.
في فصل “قوة عظمى” يستعرض بريستون التباين النوعي بين المبادئ المؤسسة للإمبراطوريتين المتصارعتين آنذاك “إمبراطورية العدالة الروسية” و”إمبراطورية الحرية الأمريكية”، حيث كان للأيديولوجيا الدور الأكبر في نشوء ذلك التعارض الذي تحول ببطء إلى ما سيسمى تالياً بالحرب الباردة التي أرخت ظلالها وتداعياتها على الكثير من الوقائع والصراعات خلال أربعين سنة خلت، كدت أن تضع العالم على شفير فناءٍ نووي.
سبق لأستاذ العلوم السياسة الهندي “باراج خانا” أن بشر في كتابه “العالم الثاني” الذي صدرت ترجمته عام 2009 بانتهاء “مبدأ مونرو” وخروج العديد من دول أمريكا اللاتينية من دائرة الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأمريكية وتحولها ولو بشكل تدريجي نحو الصين ذلك العملاق الذي يتحرك مغيراً الخرائط الجيوسياسية القديمة.
واليوم تقف الولايات المتحدة الأمريكية على أعتاب حربٍ باردةٍ جديدةٍ، تنذر بأفول أحادية القطب التي تتمتع بها الولايات المتحدة، وربما يرجع ذلك بشكل جزئي، إلى ردة فعل إدارة بوش الابن تجاه أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، والذي اعقبه إخفاق مهين في العراق، ونتائج كارثية تتحمل الولايات المتحدة وحدها عارها وجريمتها، واليوم تتكرر المأساة ثانية بفشلها المدوي في أفغانستان وخروجها الأخير منها، ربما يكون هذا مؤشراً لغياب الاستراتيجيات الواضحة في سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي سيفسح المجال لظهور قطبٍ منافسٍ جديد، نجده اليوم في التوسع الصيني الذي لا تملك الولايات المتحدة سبيلاً للحد منه.
لقد سبق أن تحدث باراك أوباما عام 2011 أمام البرلمان الأسترالي، موضحاً التوجه الأمريكي الجديد، بالتحول عن الانشغال بقضايا وصراعات الشرق الأوسط، باتجاه شرق آسيا، للتفرغ لترويض المارد الصيني، ربما كان هذا القرار صائباً، لكنه بكل تأكيد كان خياراً متأخراً، فالانسحاب من المستنقع الشرق أوسطي ليس بالأمر البسيط، كما أن القدرة على احتواء الصين والحد من صعودها بات أمراً مشكوكاً فيه.
يقف العالم اليوم بالرغم من انشغالاته الكبيرة والمؤلمة بصراعاته المحلية، يقف منتظراً نتائج هذه الحرب الباردة التي تجري اليوم بين الصين والولايات المتحدة، وهل سينجو هذا الصراع من احتمالات نزاعٍ عسكري.
مهما كانت اتجاهات هذه اللحظة الراهنة والحرجة، فمن المؤكد أنها ستلقي بظلالها على طبيعة ومسارات العلاقات الدولية لعقود قادمة، كما أنها ستحدد المصير العالمي للقواعد الليبرالية واقتصاديات السوق الحرة، وسينتظر العالم هل سيكون القرن القادم قرناً أمريكياً أم قرناً صينياً.
مقدمة مختصرة في العلاقات الخارجية الأمريكية.
إصدار – ترجمات – المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2021
أندرو بريستون، أستاذٌ للتاريخ الأميركي بجامعة كامبردج في المملكة المتحدة. ألّف عدة كتب ومقالات في التاريخ الأميركي والعلاقات الدولية. أحمد طارق البوهي، مترجم ومراجع مصري .