علي عبد الله – الناس نيوز :
اهتم ببناء مشروعه الفني وتأسيسه بمنتهى الدقة والحرص والروية، فكانت الموسيقى شغله الشاغل عن كل مناحي الدنيا، لا يداني همه منها أياً من هموم البشر، لم تكن الأغنية عنده تشكل حدثاً إجتماعياً يمر مرور الكرام، ولم يكن ينشدها ترفاً لبلوغ غاية أو هدف، لقد تعايش معها بوصفها فناً استثنائياً وحالة إبداعية ذات فعل جمالي تعبيري من شأنه أن ينعش العقل والروح والوجدان.
إنه كاظم الساهر المبدع؛ الذي وهب كل حياته وما يملك لهذا الفن الراقي متجاوزاً مغريات الحياة “وكنت شاهداً على ذلك”، وما وصفه بالقيصر إلا إستحقاق يليق بمكانته ضمن مقدمة النخبة الفنية المعاصرة ونجومها.
في المدة بين 1980/1979 كنت على رأس لجنة مكلفة بمسابقة الأصوات الشابة في العراق، وعلى أساس ذلك تم إقامة مهرجان للشباب في محافظات الشمال، وآخر في الوسط، ومثلهما في الجنوب على أن تتمخض تلك الفعاليات عن انتخاب المتميزين من الأصوات الشابة بغية مشاركتهم في المهرجان المركزي الكبير في العاصمة بغداد.
وفي مهرجان الشمال الذي أقيم في مدينة الموصل بمحافظة نينوى جلب الانتباه ظهور شاب على المسرح يتقدم الفرقة الموسيقية حاملاً آلة( الأكورديون- حيث لم يكن من المعتاد مصاحبة المغني لهذه الآلة) ويشترك بالغناء مع فتاة شابة ( Duatas ) كان اسمه كاظم جبار وقد حصل على المركز الأول، ولم يبرح يغيب عن ذهني لما يحمله من حماسة وثقة بالنفس تدل على موهبة فذة ومهارات متعددة في تجاوز المألوف والبحث عن الجديد بين جماليات الكلمة المنطوقة واللحن وموسيقاه.
وفي عام 1982 زارني ذلك الشاب المبدع في بغداد ضمن ظروف الحرب وقد سعيت له بالانتساب إلى فرقة المسرح العسكري التي كانت تضم نخبة مهمة جداً من الفنانين المرموقين، وفي تلك الأجواء الخصبة بدأ يصقل موهبته الموسيقية وتطويرها مستثمراً وجوده في بغداد للدراسة الأكاديمية في معهد الدراسات الموسيقية، وضمن تلك المرحلة أنتجت له فرقة المسرح العسكري مجموعة من ألحانه الجميلة التي قمت بإخراجها جميعاً ضمن تخصصي في هندسة الصوت والإخراج في تلك المرحلة من حياتي.
وبعد أن أصبح مشروعاً لنجم، باستحقاق، أضاف لاسمه عنواناً جديداً فكان كاظم الساهر الشاب المبدع الذي بدأ يحصد ثمرة جهده ومثابرته وصدقه في مسيرة مشرقة نقلته إلى مرحلة الاحتراف والنجومية، وفي هذه المحطة من حياته الحافلة بالإنجازات الناجحة؛ قدمت له فرصة أداء الغناء الدرامي فمنحته لحناً خاصاً من شعر كريم العراقي لمقدمة ونهاية المسلسل التلفزيوني ( الكنز )الذي أخرجه الراحل حسين التكريتي، وحقق من خلاله إعجابًا كبيراً لأدائه الدرامي المعبر استحق مني ومن الكادر والجمهور الرضا والثناء.
ثم انطلق القيصر عربياً وعالمياً مع تجارب الغناء التي حقق فيها مسيرة حافلة بالنجاح والتقدم أدركها القاصي والداني، لذا سأوفر على القارئ العزيز الخوض في محطاته الغنائية ومميزاتها، أما صفاته الشخصية فنقاؤه يجعل شهادتي فيه مجروحة.
كنت ألتقيه دائماً في القاهرة حيث يقيم؛ وتزيدني تلك اللقاءات يقيناً وفخراً بما ينجز، فأستمع إلى آخر أعماله قبل صدورها، وكنت أشعر بسعادة لا نظير لها وبشكل خاص عندما أجده يخترق مجال القصيدة بهذه الجرأة والإبداع، إذا ما علمنا بأن تلحين القصائد بوصفها شكلاً لحنياً خاصاً بعمالقة الموسيقى إذ يتطلب نسيجاً لحنياً يبذل فيه الملحنون جهداً استثنائياً لما تحمله من أساليب ومهارات تنشدها صياغة الشعر وفنونه.
لقد برع الساهر الساحر بولوج عالم القصيدة مقتدراً محققاً من خلالها نجاحات اقترب فيها من الأجيال الجديدة التي لم تكن تستسيغ القصيدة نتيجة اتباع الأساليب التقليدية التي تسببت في اتساع الفجوة الزمنية( القطيعة) بين روادها من عمالقة التلحين وبين جيل استسهل سماع نوع من الغناء الذي يهتم بالمفردات الغريبة أو المتداولة مقرونة بالإيقاع والنغم المعبر عن روح العصر.
نعم كاظم الساهر مبدع استثنائي ، قَدّس الفن ، يستحق الثناء بعد أن حافظ على مستوى تفوقه ومجده لأكثر من أربعة عقود، لكني لابد أن أعبر عن مخاوفي من التكرار الذي قد يقع فيه نتاج الساهر الجميل إذا ما استمر في تلحين القصائد بهذا الكم، فنحن نريده أن يبقى قيصراً.