[jnews_post_author]
لعل أكثر قرارات الإدارة الذاتية ميلاً للمغامرة والارتجال كانت تلك المتعلقة بالتعليم. قد يكون اعتماد التعليم باللغة الكردية مفهوماً، وقد حرم الأكراد من التعليم بلغتهم الأم لعقود، لكن ذلك لا يبرر التسرع وعدم التدرج وفرض السياسات التعليمية الجديدة على الكرد وغيرهم، الأمر الذي جعل الكثيرين يرسلون أبناءهم إلى مناطق النظام حول حلب وغيرها أو إلى المدارس المسيحية الخاصة ليكملوا دراستهم أو يبدؤوها، لا سيما وأن الشهادات في مناطق سيطرة النظام معترفٌ به، وهذا ما تفتقده باقي المناطق السورية الخارجة عن سيطرته.
في كلية طب القامشلي حديثة النشأة، والتي تتبع جامعة شمال غرب (روج آفا)، أقر المدرسون الأكراد، غير المختصين، بصعوبة التدريس باللغة الكردية، وقد درسوا في المدارس والجامعات الحكومية، فهم يعتمدون في تدريسهم على مناهج باللغة العربية، ولو أن البعض منهم يشرح للطلبة، الذين لا يعرفون اللغة العربية جيداً، باللغة الكردية، كوسيلة للإيضاح ليس إلا. وبالطبع، لن يستفيد الطلبة من شهاداتهم خارج نطاق سيطرة الإدارة الذاتية، نظراً لعدم اعتراف الدول المجاورة أو البعيدة بها.
هكذا، تتركز الانتقادات الموجهة للإدارة الذاتية في مجال التعليم على فرض التعليم باللغة الكردية؛ لأن معظم المتعلمين والمثقفين الأكراد لا يلمون باللغة الكردية لحرمانهم من التعليم بها منذ عقود. تصبح مثل هذه الانتقادات أكثر حدة في الأوساط العربية، حيث يفهم العرب فرض التعليم باللغة الكردية في مناطق الأغلبية العربية ضرباً من الاعتداء عليهم، ما أرغم الإدارة الذاتية على تعديل مثل هذه السياسات التعليمية، التي ليس لمقال عام مثل هذا أن يدخل في تفاصيلها. كما أن فرض رموز كردية أو التبشير بشعارات تجاوزها الزمن أو نشر لأيديولوجيا غريبة يثير حفيظة العرب، الذين ما زالت توجه إلى بعض تجمعاتهم تهمة تشكيل “حاضنة” لداعش.
وبالرغم مما يبدو من خلافات عربية – كردية في الجزيرة السورية، فإن العلاقة بين الشعبين معقدة وغير متساوية. وإذا كانت العلاقات بين الأكراد وقبيلة شمّر متينة تاريخيًا، فهي ليست كذلك بالنسبة لعشائر أخرى أو بالنسبة لـ “عرب الغمر“، الذين تسبب توطينهم على الشريط الحدودي مع تركيا، بعد أن غمرت أراضيهم مياه بحيرة سد الفرات، بمشاكل مع جيرانهم الكورد الجدد. تجدر الإشارة إلى أن مظاهر حياة “عرب الغمر” في القرى التي بُنيت خصيصًا لهم ما زالت بائسة، مقارنة بالقرى الكردية المجاورة.
لكن ثمة ما يجمع العرب والكورد في الجزيرة، ويجعل الشعبين متضامنين إن تعلق الأمر بالمظالم التي تعرضوا لها على يد السلطات المركزية، وشعورهم بأنهم حُرموا من الموارد التي تزخر بها منطقة الجزيرة، وعلى رأسها الزراعات الاستراتيجية والثروات الباطنية. هذه النقطة تصب في صالح الإدارة الذاتية مؤقتًا، وبخاصة إن تمت الاستجابة لأصوات كثيرة تدعو إلى توسيعها ودمقرطتها ونزع الوصاية الكردية عنها. لقد عبر لي أحد العرب بالقول: “إنهم يحاوروننا والبندقية على الطاولة“. وبغض النظر عن دقة هذا القول، فهو يكشف عن وجود مشكلة، وإن تجربة الإدارة الذاتية ما زال ينقصها الكثير، من دون أن نغفل الخبرات التنظيمية والحزبية التي اكتسبها الأكراد منذ خمسينات القرن الماضي.
وعلى مستوى العلاقات الكردية – الكردية، فإن الإدارة الذاتية تتفوق على طروحات أطراف المجلس الوطني الكردي بأنها نظمت العلاقات بين مختلف الأطراف والمكونات في الجزيرة على نحو عملي ومؤسساتي، وصولًا إلى قوات سوريا الديمقراطية (قسد). في المقابل، يحصل “المجلس الوطني الكردي” على المزيد من الدعم من قيادة إقليم كردستان العراق، المتحالفة مع تركيا والمناهضة لتوجهات حزب العمال الكردستاني. مع ذلك، لم تمنع هذه العلاقات المعقدة على المستوى الكردي من تعاون الطرفين في القتال ضد داعش في معركة عين العرب/ كوباني.
كما تبقى تجربة الإدارة الذاتية بالتعامل مع نشطاء أو سياسيين من مناطق سورية مختلفة موضع تساؤل؛ فيما إذا كان هؤلاء فاعلين سياسيين، أم أن حضورهم لا يتعدى التقاء رغبة الإدارة في إضفاء ضرب من التنوع الشكلي على سلطتها مع طموح بعض هذه الشخصيات لأداء دور سياسي ما.
في كل الأحوال، لا مخرج في المدى المنظور لأزمة الإدارة الذاتية شمال شرق سورية إلا بحل سياسي للمسألة السورية ككل، عندها قد يُعاد النظر في الإجراءات المعمول بها أو تتعدل تبعًا لطبيعة الحل السياسي وآليات الحوكمة المنبثقة عنه، لا مركزيًا وعلى مستوى سورية ككل.
في ما يلي أعرض لبعض المشاهدات الحية في منطقة الإدارة الذاتية:
- انضباط واضح على الحواجز الداخلية، وطلب مهمة السيارة من السائق، من دون التعرض للركاب الآخرين، كما لا تلاحظ مظاهر تشي بفساد في ممارسة السلطة على هذه الحواجز.
- وقوف الدوريات المؤللة، الأميركية والروسية، على الحواجز حتى تأتي الأوامر التي تسمح بمرورها، وقد يستمر ذلك نصف ساعة أو أكثر.
- ثمة نقد لممارسات قوى الأمن الداخلي (الأسايش) المتعلقة بعدم وجود فترة محددة لاعتقال الأشخاص، والتأكيد على ضرورة ضبط ممارسات هذه الجهة، والحديث عن تحقيق نتائج بهذا الصدد.
- لا تلاحظ في مناطق الإدارة الذاتية مظاهر متطرفة، لكن معسكر الهول يحتوي عشرات الآلاف من معتقلي داعش وأطفالهم وزوجاتهم، ومن الذين لم يتم التحقق من هوياتهم.
- يلاحظ بأن القوانين المتعلقة بالمرأة انعكست إيجابيًا على حالتها النفسية والاجتماعية، في المقابل، عبر بعض الرجال الأكراد، وبخاصة العرب، عن انزعاجهم من دور المرأة الجديد والقوانين التي تنصفها، ومنها إلغاء تعدد الزوجات.
- لا توجد مظاهر لطوابير على سلع أو مواد غذائية والأسعار متقاربة مع باقي المناطق السورية، والحد الأدنى للرواتب بحدود 250 ألف ليرة سورية، وهي عملة التعامل الرسمية.
- رخص المشتقات النفطية، بخاصة المازوت، وبالتالي استيراد السيارات العاملة على هذا النوع من الوقود والتلوث المرتبط به.
- تشير التقديرات إلى أن إعادة الإعمار في مدينة الرقة بلغت حوالي الثلث، وكانت قد وصلت نسبة الدمار فيها إلى 90 بالمئة عند تحريرها من داعش عام 2017.
في الختام، أشكر كل من ساهم بصورة ما في المعلومات التي وردت في هذين المقالين. كما أشكر حسن الضيافة اللامحدود، والذي وجدته في كل مكان من أرض الجزيرة السورية الغالية.