ميشيل سيروب – الناس نيوز
رواية أدبية- بوليسية عن الطائفية والخرافة والغربة والصراع الأهلي في لبنان الأمس واليوم. تبدأ الرواية بمقتل زكريا مبارك، الحدث الرئيسي يُذكرنا ﺑ “قصة موت مُعلن” لغابرييل غارسيا ماركيز وبرواية ليلى سليماني “أغنية جميلة”. هل أحداث الرواية عن التناحر الاجتماعي والطائفي أم عن جريمة نكراء دوافعها المال حصلت في ظروف غامضة ومعقدة في قرية “كرم المحمودية” الدرزية؟
يُحيلنا جبور الدويهي إلى قرن ونصف من الزمن، إلى جذور الفتنة الطائفية في عام 1860, وبحركة لولبية مُتصاعدة نتتبع خيط الزمن عبر شخصيات الرواية المتنوعة والمتصارعة بين أبناء الطائفة المارونية الواحدة(أولاد العم من آل مبارك) وبين الدروز، إلى صراعات طائفية قديمة تتجدد قبل وبعد الغزو الإسرائيلي للبنان. المشتبه بالجريمة أكثر من طرف: هل هم آل حمدان من الدروز؟ هل هو الأبرص الذي أراد الحصول على لوحة الفنان الروسي مارك شاغال(1887-1985) من المغدور؟ هل بديع مخلوف تاجر السلاح وزبون الملاهي الليلية والميليشيوي هو من نفذ الجريمة لصالح جهة ما؟ أم أن جبران يونس مبارك هو القاتل بعد أن شكﱠ بوجود كنز من الذهب تحت بيت الجدة فلومينيا؟ ربما هو انتحار في لحظة رومنسية على مشارف القرية عند الغروب! أسئلة مُحيرة يطرحها القارئ وهو يتابع تحقيق القاضي كمال أبو خالد، وكي نتأكد من نزاهة القاضي علينا أن نُدرك بأنه مسيحي من السريان الكاثوليك وليس درزياً كما ظنَّ أهالي قرية تل صفرا المسيحية! في الرواية عنصران، تتصارع الشخصيات للحصول عليهما: الذهب، ولوحة شاغال “عازف الكمان الأزرق”.
تبدأ المشاكل العائلية بسفر فلومينيا إلى فرنسا ثُمﱠ إلى أمريكا والعودة إلى لبنان (بكنز) من الذهب تحصلتْ عليه من فرنسي مُتقاعد. تُشيّدُ فلومينيا داراً للسكن تُخفي تحته الكنز المُتخيل، تستشهد فلومينيا بآية من الإنجيل للتأكيد بأن بيتها مبني على صخر وليس على رمل “حيثُ تكون كنوزكم هناك تكون قلوبكم” ص58 . وبتوريث هذا الكنز من جيل إلى جيل، تتشابك عناصر الرواية بين الشخصيات المُتصارعة التي وَرِثتْ جبلاً من الكراهية والحقد.
لفك الرموز الغامضة، نُنهي الرواية دون أن تلقى الضحية تعاطفاً، أليس زكريا بدوره سارق ومحتال وخارج عن القانون! ص 184. العنف في الرواية مُتأصل الجذور، يعتاش على الماضي وهو تجسيد حي للعنف المُبطن والمُمَارس في الحياة اليومية. جمالية الرواية تتجسد في قدرة الكاتب المذهلة بالانتقال بين الأماكن، من لبنان إلى فرنسا إلى أمريكا وبالتفصيل وبحميمية، إن السفر بالنسبة للبناني هو جزء من تركيبته الروحية كوريث للفينيقيين، وهو ما نتلمسه لدى شخصيات عديدة في الرواية. إذا كان العنف جزء من هوية المتخاصمين اللبنانيين، فإن التطرف اليميني الآخذ بالتصاعد في أمريكا، كان هو الآخر حاضراً في مشهد قتل الطفلة ماري ابنة زكريا، المشهد الأكثر إيلاماً في الرواية، ماري التي كانت نتاج علاقة غير سوية، لأم عابثة مُستهترة كحولية ولِرحَال لبناني كان همه الوحيد مُنصب للانتقال من امرأة لأخرى وكيفية الحفاظ على لوحة مُزيفة وإيصالها إلى لبنان، اللوحة التي كانت الدافع الثاني لقتل زكريا. عندما تقرر جاين (أم ماري) هجران زكريا، وهي المرة الأولى التي يتم فيها ترك امرأة لزكريا، بالعادة كان هو من يهم بهجرهن بدواعي الممل، تقول له جاين: “أنت الآن مَلِكُ الهند، كما كان يقول أبي”ص197
التحريات ما زالت جارية لكشف مُلابسات الجريمة لعدم كفاية الأدلة، هكذا يختتم جبور الدويهي الدعوة الجنائية المفتوحة على أكثر من احتمال، كما في رواية “ملك الهند” التي ارتدَتْ ثوب السرد البوليسي نحو نهايات غامضة. علينا القبول بهذه الخاتمة طالما ليس هُناك قضاء مستقل ونزيه، كما هو حاصل في السرد الروائي، وكي يتم إغلاق الملف ليس أمام القارئ إلا أن يعود إلى سيرة الصراعات الأهلية والفتن الطائفية منذ قرن ونصف كي يبدأ من جديد ويطرح السؤال مَنْ قتل زكريا مُبارك؟
————————————————————————————————————-
*رواية أدبية رُشحت للجائزة القصيرة للرواية العربية العالمية(البوكر) لعام2020 . صدرت عن دار الساقي.
**جبور الدويهي روائي، مترجم، وناقد أدبي لبناني من مواليد عام 1949 . حائز على إجازة في الأدب الفرنسي، وعلى دكتوراه في الأدب المقارن من جامعة السوربون الثانية. له روايات عديدة أبرزها: شريد المنازل، مطر حزيران، طُبع في بيروت، وحي الأمريكان. له مجموعة قصصية بعنوان” الموت بين الأهل نُعاس”.