تيسير خلف – الناس نيوز :
بعد ألف وثمانمائة عام من تدميرها كشفت مملكة عمانا عن نفسها في نقش مزدوج بالحروف الآرامية والمسندية، أعلن عنه عام 2016 في موقع مدينة مليحة في إمارة الشارقة. وكان هذا الكشف بمثابة حل للغز استمر عقوداُ طويلة، ووضع حداً لتكهنات بحثية دامت قرابة القرنين، لم تقطع على وجه اليقين بموقع مملكة عمانا المذكورة في كتب جغرافيي العصرين الهلنستي والروماني.
كانت حدود المملكة التي ذكرها الجغرافي الروماني بليني، وكذلك صاحب كتاب الطواف حول البحر الأرتري، وإيزيدور الميساني، مبهمة إلى حد كبير، فثمة حديث عن كونها جزءاً من بلاد البخور اللبان، وأيضاً موانئ متعددة على ضفتي الخليج العربي، وأنها تحاذي بلاد الأنباط باتجاه مملكة كرك ميسان، وهي مساحات مترامية الأطراف، تتخللها صحاري كبرى.
ورغم أن الآثار المكتشفة في موقعي مليحة في الشارقة والدور قرب مدينة أم القيوين، تنتمي إلى الحقبة التاريخية نفسها التي يفترض أنها كانت فترة نشاط مملكة عمانا، إلا أن الأدلة المادية الكثيرة التي عثر عليها في الموقعين كان ينقصها نقوش تذكر اسم المملكة بشكل صريح، وهو ما تم قبل سنوات قليلة، ووضع الآثار العظيمة التي تحتضنها مدينة مليحة وميناء الدور في سياقها الجغرافي والتاريخي المنطقي الذي يبدأ من ممالك الجنوب العربي في اليمن وحضرموت، مروراً بمملكتي عمانا وكرك ميسان، وصولاً إلى مملكة الأنباط، وفيما بعد مملكة الحضر وتدمر.
تتوسط آثار مملكة عمانا التي عثر عليها في موقعي مليحة والدور في الإمارات العربية المتحدة، منطقة غنية بالأوابد الأثرية العائدة إلى مختلف العصور والثقافات والحضارات التي شهدتها منطقة الخليج العربي، بدءاً بثقافات العصور الحجرية ثم عصر البرونز، فالحديد، وصولاً إلى الفترات الكلاسيكية والإسلامية.
وهذا التنوع، يعكس أهمية وخصوصية هذه المملكة، التي أضحت خلال العصرين الهلنستي والروماني مركزاً لعموم الإقليم، بسبب فعاليتها التجارية النشطة مع الكثير من البلدان القريبة والبعيدة، والتي دلت عليها مجموعة غنية وثرّة من الآثار المادية.
جاء تأسيس عمانا كمحطة تجارية في العصر الهلنستي، في سياق حتمي اقتضاه تعاظم الدور الاقتصادي والتجاري لمنطقة الخليج العربي، مع افتتاح شبكة من الطرق البرية وصلت بين أطراف الجزيرة العربية الأربعة مع محيطها الخارجي، وأضافت المزيد من الأنشطة التجارية لطريق التجارة البحري العابر لمرافئ الخليج، والذي عرفته المنطقة منذ بداية العصر البرونزي، مطلع الألفية الثالثة قبل الميلاد.
لقد عاشت مملكة عمانا مسيرة متصاعدة استمرت بضع مئات من السنين، وانتقلت من محطة صغيرة على طريق البخور القادم من حضرموت، إلى مدنية كبيرة مترامية الأطراف، ضمت جاليات متعددة، وأنشأت ميناءها البحري، وسكت عملتها الخاصة، وبسطت سلطتها المعنوية والمادية على مناطق واسعة في منطقة جنوبي الخليج العربي، مجسدة بحق، صورة شديدة التعبير عن صعود وازدهار الجنس العربي، وسط قطبية الشرق والغرب، المتمثلة بالإمبراطوريات الفارسية (الإخمينية والبارثية)، واليونانية بداية، ثم الرومانية، فيما بعد.
النقيب الأثري
وكانت عمليات التنقيب الأثري في مليحة بدأت مع بعثة عراقية في العام 1973 عملت في موسم دام ثلاثة شهور، كشفت عن بعض أقسام مبنى ضخم ومتعدد الغرف، سمي بالقصر، وفي العام 1985 أجرت بعثة فرنسية مسحاً شاملاً بوساطة الأجهزة الكهرومغناطيسية لعدد من الروابي التي عثر فيها على بعض الأبنية، وتنوعت في تلك الفترة الملتقطات السطحية حيث شملت كسراً فخارية ومعادن وزجاجاً وقطع الآجر.
وفي موسم التنقيب الثالث في مليحة خلال الفترة من أواخر عام 1988 وبدايات 1989، استطاعت البعثة الفرنسية المكونة من ميشيل موتن وريمي بوشارلات وبول كارزانسكي، من تحديد أبعاد المدينة البالغة مساحتها العمرانية 2 كيلومتر× 2,5 كيلومتر، أي ما يعادل خمسة ملايين متر مربع، وهي مساحة كبيرة بكل المقاييس. وتمكن الآثاريون للمرة الأولى من تحديد علمي دقيق للتعاقب الزمني للمدينة، والذي تم تقسيمه إلى ثلاث فترات: الفترة المبكرة والعائدة إلى أواخر العصر الحديدي، ربما من القرن السادس قبل الميلاد وحتى القرن الثاني قبل الميلاد. والفترة المتوسطة والتي هي أوسع الفترات وأطولها، والتي قسمت بدورها إلى ثلاث حقب، حيث تبدأ من القرن الثاني قبل الميلاد وتستمر حتى القرن الميلادي الأول. أما الفترة المتأخرة، فقد تمثلت بالطبقات العليا لبعض المباني، وبالإضافة إلى مبنيين كبيرين، والكثير الكثير من اللقيات العائدة للعصر الروماني، وقد تطابقت هذه الفترة مع فترة ميناء الدور في إمارة أم القيوين.
القصر الملكي والحصن
ومن أهم المباني المكتشفة قصر ملكي اكتشفته البعثة العراقية برئاسة الدكتور طارق مظلوم في عام 1973، وأطلقت عليه اسم القصر، وهي تسمية لم تكن اعتباطبة، بل هي محاولة لتوصيف مبنى كبير فريد من نوعه في منطقة الخليج خلال تلك الحقبة، يعبر عن حالة بذخ مالي كبير، ورخاء معيشي ظاهر.
والمبنى المقصود هو عبارة عن مسكن كبير مربع الشكل تقريباً 30×31م من الداخل، وذي مظهر رائع من الخارج، تم التعرف على دور معماري واحد فيه، شيد من جدران يبلغ ارتفاعها 5 إلى 6 م، حيث أن حجم القاعدة يبلغ 1.30 – 1.40م وكان مزوداً بدعامات تعطيه قوة أكبر، وقد وزعت غرفه الـ 14 حول الساحة المتوسطة.
وبيّن المدخل وجود منطقة محصنة، فيها برج حماية للزاوية الجنوبية الشرقية، بالإضافة إلى وجود غرفة للحرس تؤمن الحماية للمبنى، وتم تسجيل 518 لقية أثرية في المبنى بالإضافة إلى 402 من الأشكال الفخارية، والعديد من الأواني الفخارية وصل كاملاً أو بشكل شبه كامل. وكان عدد المواد التي تنم عن الترف كبيراً. ففي خلال موسمين عثر على 21 لقية مصنوعة من الذهب و8 من الفضة بالإضافة إلى الخرز الذهبي.
إضافة إلى القصر، كشفت معاول المنقبين عن مبنى كبير يفوقه أهمية، يمثل حصناً ربما هو الأكبر في الأبنية العائدة لتلك المرحلة في عموم منطقة الخليج. وتنبع أهمية حصن مليحة من كونه المعبّر الأهم عن تطور بنية السلطة في شرق الجزيرة العربية، من حيث مكوناتها ووظائفها وأنشطتها الاقتصادية، والسيادية. وكشف عن هذا الحصن في العام 1990 خلال أعمال الحفريات لمد أنابيب المياه على طول طريق الذيد – المدام، الذي يمر عبر الموقع الأثري لمليحة، فقد عثر العمال على أساسات مبنى مطمور بالرمال وحجر مكعب الشكل، فيه مجموعة من الدوائر المحفورة غير المألوفة، فأخبروا الدوائر المسؤولة عن ذلك الحجر الغريب، ليبدأ عهد جديد من عهود التنقيب الأثري في مليحة، حمل نتائج غاية في الأهمية، قلبت بعض المفاهيم رأساً على عقب. إذ لم يكن ذلك الحجر سوى قالب لسك العملة، ولم يكن ذلك المبنى سوى حصن المدنية، ومقر حكومتها.
وبينت نتائج التحليل الآثاري أن حصن مليحة كان موضعاً للفعاليات ذات الصلة بالقوة، والرخاء الاقتصادي أكثر مما هو حصن عسكري، وبدا أن هذا المبنى مقر للحكومة كما هو الحال في تراث الشرق الأدنى القديم. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تخصص ورشات عمل معينة أنتجت سلسلة صغيرة من المواد بعدد كبير، أظهر تنظيماً استيطانياً غير مشكوك فيه حتى الآن.
أما ورشات الصناعات المعدنية من حديد ونحاس، وورشات الحرف والمشغولات العظمية والعاجية، وصناعة الأحجار الناعمة، ومواد الزينة الصدفية والمجاميع المهمة من الفخار، فدلت على قوة راسخة سيطرت على كل النشاط الاقتصادي في مليحة أو جزء مهم منه.
وأضفت دار سك العملة، التي يمكن مقارنة مسكوكاتها مع عملات شمالي شرقي الجزيرة العربية، من الفترة نفسها، على مليحة بعداً إقليمياً يشمل الخليج والجزيرة العربية.
لقيات مميزة
وعلى الرغم من أن الكثير الكثير من اللقى الثمينة نهبت من مليحة على مر العقود، نظراً لانتشارها على طبقة سطحية نسبياً لا تحتاج إلى الكثير من الحفر والتنقيب، فإن البعض منها نجا من تلك التعديات.
ولعل اللجام الذهبي الذي عثر عليه مدفوناً مع حصان، أكثر هذه اللقيات لفتاً للنظر. فالحلقات الذهبية العشرة، المزخرفة بشكل جميل، كانت تزين جانبي رأس الحصان وترتبط فيما بينها بحلقات برونزية مذهبة وأربطة جلدية تحللت مع مرور الزمن.
كما عثر في مقبرة قديمة على تمثال برونزي لرجل يمسك بطير، هو واحد من أرقى العينات المعدنية، فالتنورة التي يلبسها الرجل تعطينا فكرة عن زي الرجال في الخليج خلال تلك الفترة، وهو يشبه إلى حد كبير زي سواحل اليمن ومنطقة القرن الافريقي، حالياً. ووجود هذا التمثال في مقبرة يوحي بأنه ذو علاقة بالطقوس والشعائر.
وعثر على عدد من الأواني ذات الصنابير مطلية بالفضة والمشغولة على شكل رأس حصان أو ثور. وهي آنية خاصة بطقوس الإراقة الشعائرية. وتعدد هذه الأواني يشير إلى دور الدين في حياة سكان مليحة وربما يشير إلى وجود أكثر من معبد في المدينة، بعضها معابد منزلية على شاكلة ما كان سائداً بكثرة في مدينة دورا أوروبس على ضفة الفرات.
وثمة كنز من المشغولات الذهبية، وتماثيل وآنية معدنية مزخرفة صغيرة لأشكال حيوانية، وتماثيل صغيرة لأسود من البرونز لها ثقوب لتشبك على الأنسجة أو الأخشاب.
وعثر عن قطع زجاجية غاية في الدقة كانت تملأ بالعطور النفيسة على ما يبدو، وتعبر عن سوية حضارية راقية، تتناسب مع المستوى الذي بلغته مليحة في القرنين الميلاديين الأولين.