ميديا – الناس نيوز ::
درج – عمر الهادي – يقدّم الإعلام المحلّي مشاهد الحراسة الأمنية حول أشجار الميلاد بوصفها إجراءً مطمئناً، لكنّ هذه الصور تكشف في جوهرها إعلاناً معاكساً، فبدلاً من تبديد الخطر، تعترف ضمنياً بوجوده، وتؤكّد أن الفضاء العامّ السوري لم يستعد أمانه بعد.
عام واحد فقط، كان كافياً ليحوّل شجرة الميلاد في سوريا، من طقس احتفالي إلى رمز للتهديد. فبعد حرق شجرة السقيلبية في ريف حماة عقب سقوط النظام، عادت الشجرة هذا العام محاطة بطوق أمني كثيف، كأنها تستعدّ لحدث قد يتكرّر.
ما كان يفترَض أن يكون طقساً موسمياً عابراً، صار اليوم محاصراً بإجراءات تُعامل ساحات الاحتفال بوصفها مواقع اشتباه، وهنا لا يُطرح السؤال عن الشجرة وحدها، بل عن واقع بات فيه الفرح السوري بحاجة إلى حماية.

شجرة الميلاد مضاءة بسيّارات الأمن
في السياق السوري، غالباً ما تجاوزت شجرة الكريسماس معناها الديني بعد أن دخلت منازل عدّة، حتى أكثرها تشدّداً، بوصفها رمزاً بصرياً محبّباً، وتحوّلت إلى طقس اجتماعي مفتوح، يجتمع الناس حولها لالتقاط الصور، ويترافق حضورها في الشارع مع تعليقات شعبية بين الطوائف، في مشهد يكشف ألفة خفّفت من ثقل الحساسيات الدينية.
إلى جانب هذا الطقس، ظلّ الاحتفال المسيحي محاطاً بخطاب كامن من العداء، وقد ظهر في الأشهر الماضية مستغلاً الفراغ الأمني في البلد، وتجلّى في حوادث حرق أشجار الميلاد، ومحاولات إزاحتها من الفضاء العامّ، والاعتداء على محالّ المشروبات الروحية، وصولاً إلى دعوات للابتعاد عن مظاهر الاحتفال.
تبدو شجرة الميلاد اليوم أكثر تهديداً ممّا كانت عليه، ففي معظم المدن السورية، تُحاط الأشجار الكبيرة بعناصر من الأمن العامّ، يقفون بأسلحتهم إلى جانب سيّاراتهم المضاءة بالأزرق والأحمر، فيما تقترب الكلاب البوليسية من الشجرة بحذر، تشمّ أغصانها كما لو كانت تتفحّص جسماً مشبوهاً، أو تبحث عن عبوة مفخخة. مشهد ساخر بقدر ما هو كاشف، ويستدعي التساؤل: لِمَ كلّ هذه الأسلحة؟
انتقدت آراء سورية عدّة هذا الحضور الأمني الكثيف الذي حاصر أشجار الميلاد ببذلات عسكرية، وصنع حاجزاً بين الناس والشجرة نفسها، فوجود الأسلحة إلى جانبها بدا لكثيرين مشهداً نافراً، ويتناقض مع ما يفترَض أن ترمز إليه من سلام.
تسييس الشجرة
يقدّم الإعلام المحلّي مشاهد الحراسة الأمنية حول أشجار الميلاد بوصفها إجراءً مطمئناً، لكنّ هذه الصور تكشف في جوهرها إعلاناً معاكساً، فبدلاً من تبديد الخطر، تعترف ضمنياً بوجوده، وتؤكّد أن الفضاء العامّ السوري لم يستعد أمانه بعد.
هنا، لا تبدو الحماية إجراءً وقائياً بقدر ما تظهر كاستنفار بوليسي، تتحوّل فيه الحراسة إلى دليل على هشاشة الشعب والقانون.
لا تزال السلطة الانتقالية تخوض امتحاناً لإثبات انفتاحها على مختلف المكوّنات السورية، وتبدو شجرة الميلاد في هذا السياق، فرصة إضافية لتحسين الصورة ورفع منسوب قبولها لدى السوريين، لتعاملهم لا كمواطنين بل كجمهور يُراد استقطابه وإثارة إعجابه.
غير أن سعي السلطة لإثبات انفتاحها على مختلف المكوّنات السورية يصطدم باستعادة أرشيف الأشهر الماضية، حيث شكّلت حوادث الاعتداء على الأشجار وتفجير كنيسة مار الياس في الدويلعة، وتدمير ستّ كنائس في السويداء، ثقوباً في جدار الثقة، بينما تحاول الحكومة سدّ الفراغات عبر استعراضات الحماية وتكثيف الوجود الأمني، في مسعى لترويض الخوف وإدارته، أكثر من معالجة أسبابه أو مواجهة جذوره.
حتى الصور المتداولة على الإنترنت لم تسلم من هذا التوظيف السياسي، فانتشرت صورة منشأة بالذكاء الصناعي لشجرة في قصر الشعب، واستخدمها البعض في صياغات سياسية لتأكيد التعايش وتغيير الحكومة، قبل أن تنفي منصّة “تأكّد” هذا الادّعاء. فيما ظهرت صورة أخرى أيضاً لشجرة السقيلبية محاطة بشعارات إسلامية من كلّ صوب، لتبدو إقحاماً دينياً في الرموز البصرية.
ولم تقتصر الاعتداءات على الأشجار فحسب، فقد سُرق تمثال القديس بولس الرسول صباح 18 كانون الأوّل/ ديسمبر، من دير مار بولس في منطقة باب شرقي في دمشق.
تمثيلات الزيّ ومصادرة الرمز
ينتقل الخطاب في سوريا عبر الزيّ، ويتحوّل اللباس إلى مساحة تتبدّل فيها الأدوار بحسب ما تقتضيه الحاجة. في أحد المقاطع المتداولة مؤخّراً، تصوّر فتاة رجلاً يرتدي زيّ بابا نويل، قبل أن يكشف شارباه المحلوقان ولحيته الشعثاء عن خلفيّته الدينية، التي قدّمتها الفتاة بوصفها دليلاً على التعايش السلمي في سوريا.
بدا الرجل بلحية مزدوجة: سوداء حقيقية تعلوها لحية بيضاء مستعارة، وكأن وجهه مقسوم إلى طبقتين، واحدة للواقع وأخرى للعرض. هكذا يتحوّل بابا نويل؛ رمز الميلاد، إلى وسيط يُعيد طرح السؤال السوري الحديث: “شو طايفتك؟”.
هذا التبديل ليس جديداً، فقد مارسه القادة السياسيون أنفسهم، من إعلان القطيعة مع ماضيهم والانتقال من البذلة العسكرية إلى البذلة الرسمية، في محاولة لإعادة تقديم الذات عبر تغيير المظهر، والتسلل إلى المجتمع عبر رموزه المعروفة.
كما لم تنجُ الرموز الاحتفالية من التوظيف الأمني في عهد الأسد، حين تحوّلت بدلات بابا نويل والشخصيّات الكرتونية المشهورة، إلى أجساد مستعارة لرجال المخابرات الذين يتنقّلون في الساحات ومراكز الاحتفال، ويراقبون الناس من خلف الوجوه المحشوّة والابتسامات المصطنعة.
يكشف هذا التبادل عن امتداد السلطة واستيلائها على الرموز الدينية والشخصيّات الشعبية، وهي ممارسة تتكرّر في مستويات أخرى، حتى بذلة الأمن العامّ لم تسلم من الالتباس، فبعد أن نُسبت اعتداءات مسلّحة إلى رجال يرتدونها، خرجت روايات مضادّة تُرجعها إلى عناصر منفلتة بالزيّ نفسه، ليغدو اللباس موضع اشتباه لا يمكن الركون إليه كدليل.
كذلك الأمر لم ينجُ بابا نويل “السُنّي” من الشكوك، إذ تداولت صفحات أُخرى روايات غير مؤكّدة تُظهر صوراً لشخصيّة تشبهه بلباس جيش الأسد، متهمةً إياه بالشبيح المتنكّر.
فكيف يمكن للسوري اليوم أن يستعيد ثقته بالرمز، ويميّز بين زيّ الحماية وزيّ التهديد؟
مواسم الحداد والاحتفال

تعيش شجرة الكريسماس السورية تحوّلات البلد وأحوال أهله، فتصبح تعبيراً عن المزاج العامّ، تُضاء في لحظات الاحتفال وتخفت في مواسم الحداد، حتى تفاصيل الأزمة السورية انعكست عليها بعدما انطفأت مع انقطاع الكهرباء، وتحوّلت زينتها إلى إعادة تدوير المتاح، تحت ضغط الغلاء وارتفاع أسعار الشجر الصناعي وكرات الزينة في الأسواق.
هذا التحوّل طاول المزاج المسيحي أيضاً، إذ تقلّصت مساحات الاحتفال المعتادة على حساب التغيّرات السياسية، وظهرت الزينة هذا العام خجولة في بعض المناطق، لا سيّما في دمشق والساحل، فيما أعلنت رعايات كنسيّة في السويداء حداداً كاملاً على خلفيّة الأحداث الأخيرة التي شهدتها المحافظة.
ورغم هذا الإعلان، سُجّلت مواقف وخطابات متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي تحمل نبرة تهديد تجاه أي مظهر علني للاحتفال، سواء عبر أشجار الزينة أو الشخصيّات الاحتفالية، ممّا أضاف طبقة جديدة من القلق إلى مشهد يفترَض أن يكون طقساً دينياً وممارسة خاصّة.
وفي ظلّ هذا التداخل بين السياسة والرمز، تبدو شجرة الميلاد في سوريا أقلّ حضوراً كاحتفال، وأكثر اختباراً لمدى قدرة السوريين على تشارك الفضاء العامّ من دون رقابة أو تهديد أو سلاح.

الأكثر شعبية

ممّن نحمي شجرة “الكريسماس” في سوريا ؟


من التعافي إلى العافية.. العادات اليومية أساس صحة طويلة الأمد..

