انتهى الشتاء، وذهب البرد والصقيع ولون الثلج الأبيض، وحل الأخضر في كل مكان، وانتشرت أشعة الشمس الدافئة، وخرج الناس إلى الهواء الطلق ونزعوا ثيابهم ليتعرضوا لأشعة الشمس، واحتلوا أرصفة الشوارع، والساحات، والحدائق، والشواطئ.
استمر لقاء السبت مع الأصدقاء كالعادة، لم يتغير فيه أي شيء. بالمقابل استمر لقائي مع ماريا، حيث اعتدنا، أنا وماريا، على اللقاء في مقهى إسبريسو في مركز المدينة. في الربيع رحنا نجلس إلى الطاولات التي في الخارج، على الرصيف، نستمتع بأشعة الشمس وبمشاهدتنا للعابرين. كان حديثنا عن الثقافة عموما، والمسرح بشكل خاص، والمشاريع التي تنوي ماريا القيام بها. لم نتحدث عن أي أمر شخصي، يخص حياة أحدنا، لأن ماريا كانت ترفض الحديث عن حياتها الخاصة، فكانت توجه الحديث إلى الشؤون العامة. تعلقت بها أكثر، ورحت أتحين الفرصة لكي أعبر لها عن حبي وعن رغبتي بأن نعيش سوية. كنت ألمس نفس الشعور والرغبة عندها أحيانا، وأحيانا أخرى أجدها غارقة في هموم غامضة بالنسبة لي.
في تلك الفترة وافقت ماريا على إخراج مسرحية جديدة. حدثتني عنها، وأعطتني نسخة منها، ليس كممثل له دور في المسرحية، وإنما كصديق وقارئ لكي نتناقش حولها. بعد أسبوع ذهبت إلى الكافيه، وأخذت مكانا كالعادة، إلى طاولة على الرصيف. اتصلت بماريا، وأخبرتني أنها في الجوار، بحاجة لدقيقة لتصل. ذهبت إلى المحاسب وطلبت فنجاني قهوة وفطيرتي جبنة بالعسل، لأن ماريا تحب هذا النوع من الفطائر. دخلت ماريا الكافيه وأنا أحمل ما طلبت. أشرت لها برأسي وقلت:
ــ حجزت طاولة في الخارج.
خرجنا كلانا إلى حيث الطاولة. وضعت الصينية عليها، بينما خلعت ماريا معطفاً خفيفاً كانت ترتديه ووضعته على مسند الكرسي، وجلسنا متقابلين. أخذت رشفة قهوة، ونظرت إلى عينيها. بدت مرحة، في مزاج جيد، قلت:
ــ قرأت المسرحية ولكنها لم تعجبني.
ابتسمت وهي تنظر إلي وقالت:
ــ عليك أن تقرأها أكثر من مرة. عندما قرأتها أول مرة كدت أن أرفضها ولكن قلت لنفسي، يجب أن أعيد قراءتها كي أتمكن من إعطاء رأي صحيح.
فجأة توقفت ماريا عن الكلام، وراحت تنظر إلى اليسار والأعلى. عندما نظرت بنفس الاتجاه رأيت نفس الرجل الضخم ذي العضلات القوية. كان واقفا مستندا بكلتا يديه على حاجز الحديد، الدرابزين، الذي يفصل الطاولات عن الطريق، وينظر إليها بعينين ناريتين وتعابير وجهه قاسية ولئيمة إلى أبعد حد. قال بلهجة وقحة:
ــ كم مرة حذرتك أن تبتعدي عن هذا التافه.
كان موقفا مفاجئا بالنسبة لي إلى درجة لم أعد قادرا على التصرف أو أن أقول أي شيء. كان لا بد من فعل شيء ما، كدفاع عن النفس، إلا أني لم أفعل أي شيء، فقط رحت أنظر إلى وجهه وعضلاته.
حاولت ماريا أن تسيطر على غضبها، فهي تجلس في الشارع تقريبا، كما أنها شخصية معروفة وأي خلاف علني أو مشادة كلامية سيتسبب لها بفضيحة كبيرة، لذلك قالت:
ــ أرجوك يا ميلتون أن تهدأ وتذهب من هنا، إنه مكان غير مناسب للحديث بهذه المواضيع.
تجاهل ميلتون رجاءها وتابع استفزازه لها ولي. قال بهدوء وكأنه يتحدث عن الطقس:
ــ لم تحسني الاختيار، ذوقك تافه كالعادة. ظننت أنك أصبحت أفضل بعد ابتعادنا عن بعض كل هذه الفترة، لكنك على العكس، ازداد ذوقك تفاهة.
شعرت بالإهانة، وأصبحت عصبيا جدا وبدأت أرتجف من شدة الانفعالات التي اجتاحتني، لذلك قلت باندفاع:
ــ من أنت كي تقول هذا الكلام السيء.
قاطعتني ماريا:
ــ ماهر أرجوك لا تتكلم. نحن في مكان عام.
التزمت الصمت، بينما راح ميلتون يضحك بسخرية. تابعت ماريا بصوت منخفض، وهي ما زالت مسيطرة على انفعالاتها:
ــ ميلتون توقف عن السخرية. يمكن أن نتحدث بكل شيء ولكن ليس الآن ولا في هذا المكان.
إلا أن ميلتون ازداد وقاحة. انحنى أكثر على الحاجز وقال:
ـــ هل يمارس الجنس بشكل جيد؟ هل تستمتعين معه أكثر؟
اجتاحتني انفعالات إلى درجة لم أعد أرى أمامي، ولم أفكر بأي شيء، لذلك أمسكت كأس الماء لأقذفه في وجه ميلتون، إلا أن ماريا صاحت:
ــ لا ماهر لا تفعل هذا، أرجوك توقف.
تراجعت عن فعل ذلك في اللحظة الأخيرة، وإلا كنت سأحطم وجهه. اكتفيت برشقه بالماء. سال الماء على وجهه، وهو ينظر إلي بكراهية، ثم مد يده الكبيرة وقبض على ياقتي وسحبني باتجاهه. ولأنني كنت جالسا، فقد سحب معي الكرسي والطاولة. صاحت ماريا:
ــ ميلتون كفى. توقف عن هذا. هذا لا يليق بنا. نحن في مكان عام ولا يجوز إثارة مشاكل من هذا النوع في الأمكنة العامة.
تجاهل ميلتون كلامها، واستمر في سحبه لي حتى كاد وجهي يلتصق بوجهه. حدق في وجهي وقال:
ــ عد إلى بلدك أيها الحقير، لقد لوثتم السويد بأوساخكم القذرة، لم نعد نحتمل وجودكم هنا
ثم دفعني للخلف وذهب. كدت أن أنقلب على ظهري، لكن الكرسي سندتني فجلست عليها. تلفت حولي رأيت الجميع ينظرون إلينا بدهشة. همست:
ــ يا إلهي كم هذا سيئ.
قالت ماريا:
ــ لنذهب.
نهضت وخرجت من المكان بينما وقفت ورحت أرتب ثيابي وأنا أشعر بالإهانة، ثم خرجت مسرعا خلف ماريا. لحقت بها، وسرنا بصمت. شعرت بالخجل من نفسي لأني لم أدافع عن ماريا وعن نفسي كما يجب أمام ذلك الوقح. انعطفنا إلى اليمين، إلى شارع كونغس غوتان، شارع الملك ثم انعطفنا يسارا، إلى شارع الأميرة، ثم يسارا إلى شارع أُولف بالمه وأخيرا وصلنا إلى سنتر ستاشون، المحطة الرئيسية للقطارات. لا أعرف إلى أين تمشي ماريا، ربما لا تقصد مكانا محددا، نمشي فقط لكي نخفف من عبء الإهانة التي وجهها ذلك العملاق لنا. دخلنا المحطة ونزلنا أدراجا كثيرة. في النهاية قلت لها:
ــ ماريا، إلى أين؟
توقفت ماريا عن المشي، وتوقفت بدوري، أمسكت بيدي، تبادلنا نظرات حب وتعاطف. قالت بصوت منخفض:
ــ سنذهب إلى شقتي.
ما أن فتحت ماريا باب شقتها وأغلقته خلفنا حتى ضممتها، راحت أنفاسها تضرب عنقي، وازداد وجيب قلبينا، وتبادلنا قبلة طويلة انتهت ونحن عراة في السرير. مارسنا الجنس كما لم أمارسه في حياتي. خضت غمار تفاصيل الجسد ببطء وبمتعة. حاولت أن أجعل ماريا تصل إلى لذة لم تصلها في حياتها. استخدمت كل تجاربي السابقة وكل معارفي في تضاريس الجسد الأنثوي لنصل معا إلى قمة اللذة. أحسست أنني أدخل امتحانا مع ذلك المارد ميلتون، وكأنني أردت أن يقول لماريا ها أنا ذا وأنت من يقرر من الأفضل.
بعد أن أخذنا دوشا، قالت ماريا:
ــ ما رأيك أن نخرج لنتعشى في أحد المطاعم.
أجبت:
ــ نعم فأنا جائع جدا.
طيلة الطريق إلى المطعم وأنا أشعر أنني أرافق ماريا أخرى غير التي أعرف. كانت تتحدث وتضحك دون توقف. نشرت البهجة والفرح من حولها. شعرت أنني أسعد إنسان في هذه ادنيا. جلسنا في المترو ويدها في يدي ورأسها على كتفي. قالت:
ــ أنت ساحر.
ثم رفعت رأسها ونظرت إلي وابتسمت. وهمست:
ــ هل تحبني؟
لم تنتظر الجواب. أعادت رأسها إلى كتفي وتابعت:
ــ كنت أسمع عن حب من أول نظرة ولم أكن أصدق هذا، إلى أن حدث معي. نعم لقد أحببتك من أول نظرة.
وضعت يدي حول خصرها وضممتها بقوة وهمست لها:
ــ لو تعرفين كم أحبك! كنت أظن نفسي أنني أحببت في السابق ولكن حبي لك جعلني أنظر الى الماضي بسخرية. لم يكن حبا، بل كان مجرد لهو.
غادرنا الميترو وصعدنا إلى الشارع. كان الليل قد خيم على ستوكهولم وأنيرت الشوارع وواجهات المحلات التجارية. تشابكت أيدينا، شعرت أنني شخص آخر، ماهر جديد، مميز جدا عن الآخرين بحيث استطعت أن أحظى بقلب امرأة مميزة جدا.
اختارت ماريا مطعما جميلا، أجواؤه هادئة، أضواء خافتة، موسيقا رومانسية هادئة تنساب بعذوبة في أرجاء المكان. جلسنا إلى طاولة متقابلين، أمسكت يدها، بينما أشعل النادل شمعتين على طاولتنا وهو يبتسم. تحدثنا كثيرا وفي مواضيع مختلفة، لكنها لم تتحدث عن ذلك الرجل وعلاقتها به. كما أنني لم أسألها لأن ذلك سيغير مزاجها بالاتجاه السيء. كانت نشطة، حيوية، عيناها تشعان، وكلامها يتدفق في مواضيع مختلفة. تحدثنا عن المسرح كثيرا، عشقها الأبدي وعن طموحها في أن تذهب إلى لندن وباريس وفيينا وأثينا ومدريد وموسكو وتقدم مسرحياتها وأن تكون مخرجة رقم واحد.
عدنا إلى الشقة بمزاج مرتفع. شرعت أتأمل اللوحات المعلقة على الجدران، شعرت أنني في معرض للوحات عالمية. بينما دخلت ماريا إلى غرفة نومها لتبدل ثيابها ولتبحث عن بيجاما لي. سمعت صوتها:
ــ ماهر، تعال لتلبس بيجاما.
دخلت غرفة النوم. كانت ماريا تجثو على ركبتيها، وقسم من جسمها داخل الخزانة، تخرج منها بعض الثياب، قالت:
ــ البيجاما على السرير لم تُلبس. جربها.
ثم أضافت وهي تكلم نفسها:
ــ يا للشيطان، إنها ثياب ميلتون الحقير. يبدو أنه نسيها.
أخرجت سترة، وبنطالي جينز وقميصين، وتي ــ شيرت الذي لفت انتباهي بألوانه. التقطته وفردته، لأنه كان مطويا. أصبت بصدمة وأنا أرى رمز ــ لوغو التيار النازي في السويد. صحت:
ـــ ماريا، انظري
عندما التفتت ماريا ورأتني أحمل تي ــ شيرت تجمدت عيناها على اللوغو، ثم نهضت ببطء، وأخذته وراحت تسب ميلتون وتسب أمها. فجأة تحولت إلى امرأة أخرى، غاضبة وساخطة على نفسها وعلى حياتها. جمعت ثياب ميلتون ووضعتها في كيس من البلاستك وخرجت إلى الصالون. خرجت خلفها، رأيتها تعبر الصالون إلى حيث باب الشقة، فتحته وخرجت. بقيت لوحدي وطنين هائل في أذني، وفراغ في رأسي.
عادت بعد دقائق وقد تغير مزاجها، انقلبت رأسا على عقب. ذهب كل النشاط واختفى السحر من وجهها وتحولت إلى امرأة محبطة. أصيبت باكتئاب طارئ. جلست على الأريكة وهي في غاية الحزن. قالت:
ــ رميت كل أشيائه في القمامة، حيث المكان المناسب لها.
نظرت اليها ودُهشت لهذا التبدل في مزاجها، اقتربت منها وجلست إلى جانبها واحتضنتها. حاولت أن أحسن مزاجها وأن أُبعد شبح الاكتئاب عنها. تحدثت مطولا، كيف ومتى أحببتها، رويت لها قصصا عن شقاوة الطفولة والمراهقة. إلا أن تفاعلها كان متدنيا، لم أستطع أن أُخرجها من حزنها الطارئ. طلبت منها أن تذهب إلى السرير وتتمدد. أمسكت بيدها ونهضنا، دخلنا غرفة النوم، تمددت على السرير، وتمددت بجانبها واحتضنتها. انكمشت في حضني كقطة وديعة وبقيت صامتة. مر الوقت بطيئا، أكثر من نصف ساعة ونحن صامتان. في النهاية قالت:
ــ إنه وغد!
كانت تقصد ميلتون، ثم أضافت:
ــ يجب أن آخذ حبة تساعدني على النوم فلدي الكثير لأعمله غدأ.
أكدت:
ــ نعم هذا جيد.
نهضت وخرجت إلى المطبخ، بينما أنا نهضت إلى الصالون. بعد دقيقة دخلت إلى الصالون، اقتربت مني وتبادلنا قبلة سريعة وقالت:
ــ نوم جميل أتمناه لك.
قلت:
ــ ليلة هادئة أتمناها لك، نلتقي غدا.
ذهبت إلى غرفة نومها، بقيت أنا في الصالون. حولت الأريكة إلى سرير وتمددت عليه، محاولا أن أطرد شبح ميلتون وشبح اللوغو. مرت ساعتان حتى استطعت النوم.
انتهى الربيع ونحن نلتقي بشكل يومي. لا أعتقد أنه مر يوم دون أن نلتقي. كان أجمل ربيع يمر في حياتي كلها. ازداد حبي لماريا وتعلقي بها. كما أصبحت جزءا مهما في حياتها، أدخلتني في كثير من تفاصيل حياتها اليومية كمساعد لها أو كناصح. كانت كلما أرادت الذهاب إلى أي مكان، سواء كان ذلك داخل السويد أم خارجه، تتصل بي كي أرافقها.
في سياق حياتنا المشتركة حدثتني عن تفاصيل كثيرة في حياتها. عرفت أنها أكبر مني بـ 7 سنوات، فهي من مواليد ستوكهولم 1982. أبوها مهندس وأمها معلمة لغة، كانت مدمنة كحول مما اضطر الزوج، لهذا السبب ولأسباب أخرى، أن ينفصل عنها ويحصل على حق رعاية الطفلة ماريا. أثناء رعاية الأب لماريا عاشت طفولة ممتعة وسعيدة، لقد كان أبا عطوفا، قدم لماريا كل شيء يمكن أن يقدمه أب لابنته. عندما أصبح عمر ماريا أحد عشر عاما توفي الأب بسبب جلطة قلبية. شكلت وفاته صدمة كبيرة لماريا، وشعرت بالفقد لأول مرة. فقدٌ ولَّد حزنا كبيرا، رغم طفولتها شعرت بوطأة الحزن الذي استمر معها لفترة طويلة بعد وفاة الأب. عادت وعاشت ماريا عند أمها بعد أن تعالجت من الإدمان إلى أن توفيت بسبب مرض السرطان وماريا عمرها 19 سنة. كانت الأم من مؤيدي التجمع المعادي للمهاجرين ومن مناصري التيار النازي، القليل العدد ولكن بدأ يكبر مع تدفق المهاجرين من جهات الأرض الأربع . أثرت الأم على ماريا في فترة المراهقة، وكانت حريصة أن تصطحبها إلى كل النشاطات والفعاليات التي يقوم بها ذلك التجمع، وأدخلتها في منظمة خاصة للمراهقين تتبع لهذا التيار تحت اسم آخر. مهمة المنظمة القيام بنشاطات ترفيهية، رحلات، نزهات، تزلج على الجليد، ونشاطات رياضية أخرى. تأثرت ماريا بذلك الوسط المحيط بها، وأصبح لديها أصدقاء وصديقات. كانت أفكار التيار تقدم للأطفال والمراهقين عبر تلك النشاطات الترفيهية بحيث يصبح الطفل أو المراهق حاملا ومعبرا عن تلك الأفكار بشكل تلقائي وبدون تفكير مسبق، تصبح الأفكار مثل اسمه.
في هذا المناخ التقت ماريا بميلتون الذي يكبرها بخمس سنوات. شاركا في كثير من النشاطات الترفيهية وكان ميلتون عضوا نشيطا ومتحمسا لأفكار التيار. ثم أصبح رئيسا للمنظمة التي تقرر النشاطات وتنظمها وتديرها. كان ميلتون شابا مليئا طاقة وحيوية، لا يهدأ، دائم الحركة، لديه مقترحات مبتكرة لنشاطات جديدة. ما إن ينال موافقة الهيئة الإدارية للمنظمة حتى يباشر في تنفيذها. عندها يصبح كتلة من النشاط المتدفق، تظهر مهارته في الحشد والتعبئة والتنفيذ. ينجز كل المهام الموكلة له على أفضل شكل.
أُعجبت ماريا المراهقة بنشاط وحماس ميلتون وأحبته وشاركته كل النشاطات التي قام بها، بل أصبحت مثله فعالة، أدارت العديد من النشاطات بمساعدته وتحت إشرافه. لذلك أحبها حبا قويا بل جارفا، حبا يتلاءم مع شخصيته، التي تقتنع بالأفكار المتطرفة. شخصية ميلتون من النموذج المتطرف لجهة علاقاته مع الأفكار أو الأشخاص الذين يرتبط بهم لسبب أو لآخر. لديه دائما ثنائية ” الحب والكره ” الحب إلى أقصى حد ممكن والكره إلى أقصى حد ممكن. لذلك كان حبه لماريا حبا قويا جدا.
عندما بدأت ماريا دراسة الإخراج المسرحي، بدأت تتغير، حيث بدأت أفكار كتاب المسرح العالمي تفعل فعلها في رأس ماريا. بدأت تشعر أن أفكار ذلك التيار لا تتناسب مع رؤيتها التي راحت تتغير يوما بعد يوم. لم تجد ماريا في التيار ما يشبع روحها التواقة إلى الحب. حب زرعه أبوها، حب يشمل الإنسانية جميعا. راحت تقارن بين أبيها وميلتون والآخرين في التيار. أدركت أن أفكارهم ليست إلا أفكارا تحرض على الكراهية. كما أن حبها للمسرح راح يزيد من حبها للإنسانية ويبعدها عنهم، حيث لا يمكن أن يتوافق المسرح مع الكراهية، لأن المسرح هو دعوة للحب وللحياة ونبذ الكره.
في السنة الثانية من دراستها الجامعية ارتبطت مع ميلتون بعلاقة سامبو. في نفس الوقت بدأت تبتعد عن أفكار التيار التي تحرض على الكراهية. لم يحدث الابتعاد بشكل مفاجئ أو سريع، بل بشكل بطيء، إلا أن حادثة وقعت سرعت من وتيرة الخلاف وكانت بمثابة الصاعق الذي فجر خلافا شديدا بين ماريا من جهة وميلتون والتيار من جهة أخرى. قام ميلتون ومن معه بالتخطيط للقيام بمظاهرة ضد مظاهرة كان قد أُعد لها من قيل تيارا يناصر المهاجرين، في ساحة ” سيغيل توريت “. لم يكتف ميلتون بالمظاهرة، بل قام بإعداد عشرة من الشباب، أعمارهم تتراوح بين 16 و20 عاما، ذوي أجساد رياضية ويتمتعون بلياقة بدنية عالية، وزودهم بعصي لها زوائد حادة، ليعتدوا بالضرب على ناشطين وسياسيين معروفين من الطرف الاخر. كان عليهم أن يتسللوا إلى المظاهرة الأخرى، وقد أخفوا عصيهم تحت ثيابهم، ويتوزعوا بينهم ويذهب كل واحد منهم إلى الهدف الذي حُدد له. ما إن يبدأ التصادم بين المظاهرتين وتبدأ الشرطة بالتدخل لتفريق الطرفين وإبعادهم عن بعضهم البعض حتى يهجم كل واحد من هؤلاء الشباب على هدفه ويضربه بعنف بحيث يشكل أذية قوية للهدف ثم يهرب.
هذه الخطة حكاها ميلتون لماريا مساء وقبل أن تبدأ المظاهرة بخمس عشرة ساعة. اعترضت ماريا ودار نقاش حاد بينهما تطور إلى خلاف شديد، ارتفعت أصواتهما وتحول إلى صراخ أُوقِف عندما سمعا نقرا على الباب. نهضت ماريا وفتحت الباب. كانت جارتهما التي تسكن فوق شقتهما. أبلغتها أن صوتهما مرتفع إلى درجة أنها عرفت تفاصيل النقاش، ثم ابتسمت وقالت:
ــ عندما ترتفع الأصوات تغيب الحكمة.
ردت ماريا مبتسمة ولكن مرتبكة:
ــ هذا حقيقي، نحن نأسف لهذا وسوف نكف عن النقاش.
ذهبت الجارة بينما أغلقت ماريا الباب ودخلت إلى غرفة النوم. ارتدت ثيابها وخرجت دون أن تقول أي كلمة لميلتون. ذهبت إلى مركز البوليس وتحدثت إلى المسؤول عما يفكر ويخطط ميلتون وأصدقاؤه أن يفعلوا غدا. ألغت الشرطة الموافقة على مظاهرة ميلتون وأصدقائه، وتم حشد أعداد غير عادية من الشرطة قبل موعد المظاهرة بساعتين، ولم يسمحوا لأي من أفراد مجموعة ميلتون أن يتواجدوا في المكان. فشلت خطة ميلتون وبدأ أصدقاؤه يبحثون عن الذي أفشى السر للشرطة. شك ميلتون بماريا ولكن لم يصل إلى قناعة راسخة بأن ماريا هي السبب. بعد شهرين وأثناء حديث جرى بينهما اعترفت ماريا أنها هي التي أبلغت البوليس عن الخطة. لم يستسلم ميلتون وبقي يراهن على إعادة ماريا إلى ما كانت عليه أيام النشاطات الترفيهية والمنظمة الشبابية. كما أن ماريا استمرت مع ميلتون تحاول من جهتها أن تبعده عن التيار وأفكاره. قال لها في إحدى الامسيات:
ــ أنا مستعد أن أتخلى عن كل شيء من أجلك.
لكن تبين فيما بعد أنه كان يكذب. استمرت الخلافات في تسميم حياتهما المشتركة وتساهم في تعزيز أسباب انفصالهما الذي حصل فيما بعد..
العامان الأخيران كانا مليئين بالشجار بينهما إلى درجة هددها بالقتل إن هي تركته. أذكر أنني قاطعتها حينها وسألتها مستنكرا:
ــ هددك بالقتل القتل!؟
قالت:
ــ نعم بالقتل. ميلتون إنسان متطرف في كل شيئ. بنيته النفسية هكذا. يُحب حبا مرضيا ويكره كرها مرضيا.
استمرت الخلافات والمشاكل بحيث جعلت الحياة المشتركة لا تطاق، لذلك قررت ماريا أن تبتعد عن ميلتون الذي أصر وعاند وحاول مرارا أن يؤجل إلا أن عنادها كان قويا لا يقاوم.
اختفى ميلتون من حياة ماريا، لأنه اقتنع أن ماريا لن ترتبط به مجددا. مرت عدة أشهر حتى التقينا ذلك اللقاء الشهير عندما هاجمني ميلتون وكاد أن يخنقني.
في بداية الخريف قررنا، ماريا وأنا، أن نعيش سوية في شقة واحدة كسامبو.
سمعت وقع أقدام أمام باب غرفتي. نظرت إلى الساعة كانت الثانية عشرة. فُتح الباب وأطلت ماتيلدا. قالت:
ــ مرحبا ماهر.
قلت:
ــ أهلا وسهلا
خرجت من الغرفة وأنا أنظر إليها. لم تكن على ما يرام. بدت حزينة. اقتربت منها أكثر وقلت:
ــ لِمَ أنت حزينة؟
ابتعدت عني وتابعت سيرها باتجاه الغرف لتكمل عملها بينما تابعت سيري إلى صالة الطعام.