منصور المنصور – الناس نيوز
لأول مرة شعرت بالمتعة في أشهر الخريف. لم أشعر بذلك الحزن والضجر اللذين يرافقان تلك الأشهر. انقضت كأشهر الربيع بيسر وسهولة، وهذا يعود إلى ماريا التي حولت حياتنا المشتركة إلى حياة ممتعة، كلها نشاط ومليئة بالمشاريع. كانت علاقتنا مزيجا من الصداقة والحب والجنون. أحيانا لا نلتقي لعدة أيام، بسبب طبيعة عمل ماريا وسفراتها المتكررة داخل وخارج السويد. ولكن عندما نلتقي نكون كعاشقين، نمارس كل شيء بكثير من المبالغة، بما يزيد عن الحد الطبيعي. أحيانا نمضي عطلة نهاية الأسبوع في الشقة لا نخرج أبدا. نشرب الخمر ونمارس الجنس بنهم. أحيانا نخرج نتجول في شوارع ستوكهولم، إذا كان الطقس مناسبا، أو نذهب إلى المسرح والسينما والمتاحف. نتذوق كل أنواع الأطعمة في المطاعم مع الويسكي، الذي هو شرابها المفضل. نلتقي بالأصدقاء من الوسط المثقف،بينهم ممثلون، كتاب، مخرجون وصحفيون. رغم كل العقبات كانت تسعى إلى هدفها بكل طاقتها، التي مصدرها حبها للمسرح وللإنسانية. بالمقابل لم تكن حياتنا صافية كماء النبع، بل كانت هناك خلافات. فإن كان الخلاف حول مسرحية أو فيلم أو رواية أو رأي سياسي، فكان ينتهي بأن يقدم كل واحد منا وجهة نظره وفقط. أما إذا كان الخلاف مثل أي اثنين متزوجين، حول تفاصيل صغيرة تتعلق بحياتنا فكان يتطور لشجار وصراخ. هنا ندرك أننا قد وصلنا إلى ما هو سيء. كانت ماريا تقول:
ــ يكفي. يكفي. اذهب وعد بعد ساعة.
كنت اخرج إلى أي مكان، ولا أعود إلا ليلا. أتسلل إلى الغرفة الأخرى وأنام، لأنني أحتاج إلى وقت أطول من ماريا حتى أهدأ ويتحسن مزاجي، بينما هي فلا تحتاج إلى أكثر من ساعة حتى تهدأ وتنسى كل شيء.
هكذا تابعت الحياة مسارها المعتاد. كنا نتغلب على الخلافات بالابتعاد لمدة ليلة أو أقل قليلا أو أكثر قليلا. هكذا كانت علاقتنا بين ارتفاع وهبوط إلا أننا لم نفكر يوما بالانفصال أبدا.
لدى ماريا طاقة هائلة، تتحرك دائما، تتحدث كثيرا، تقدم مشاريع كثيرة وتنفذ أغلبها. لديها طاقة على الحياة، نبع لا ينضب من الحب والمشاعر الإنسانية تمنحه للآخرين. لديها الكثير من الأصدقاء والمعارف، تمنحهم الكثير من الاهتمام والاتصالات والحديث، لذلك تبدو مشغولة دائما بأمر ما. على عكس النساء، يصبح لديهن اهتمام كبير بأهلهن بعد أن يتزوجن، كل اهتمام ماريا تمنحه للأصدقاء ولمن حولها. كرست الكثير من وقتها للمسرح، لحبها الأول، كما تحب أن تقول دائما. راح نجمها يصعد في عالم المسرح. لقد أنجزت عدة مسرحيات بنجاح مبهر. سُلطت الأضواء عليها. وأجرت عدة لقاءات تلفزيونية. في الحقيقة، بعد كل نجاح كنت أخاف أن تتخلى ماريا عني، أن تجعل الأضواء منها نجمة وتصاب بالغرور، إلا أنها كانت تفاجئني بحبها لي الذي يتعزز يوما بعد يوم.
كانت تمر بنوبات اكتئاب حادة، وكنت أساعدها كي تتجاوز أزمتها بشتى الطرق. أحيانا تذهب إلى طبيبها النفسي. لم تكن سعيدة في طفولتها كما روت لي مرة، بسبب الخلافات الحادة وشبه الدائمة بين أمها وأبيها. لم تذكر يوما أن أباها وأمها جلسا وتحدثا مثل أي زوجين. كثيرا ما كانت ماريا تسأل نفسها بصوت عال:
ــ لماذا أبي وأمي تزوجا؟ لم يكونا يحبان بعضهما. لم يكن هناك سبب لهذا الزواج.
أتذكر الآن أسوأ وأعنف مشادة كلامية حصلت بيني وبين ماريا منذ أن بدأت علاقتنا كسامبو، عندما ذهبت إلى صالة المسرح حيث كانت تُعرض مسرحية لها وكانت هي ممثلة ومخرجة بآن معا. كنا قد اتفقنا أن آتي إلى المسرح لأخذها ونذهب لتناول العشاء في أحد المطاعم. عندما وصلت كان عرض المسرحية قد انتهى لتوه، لذلك دخلت إلى الكواليس، حيث تتواجد ماريا مع جميع الممثلين، لتبديل ثيابهم ويزيلوا المكياج قبل أن يغادروا صالة المسرح. عندما دخلت كان نقاشا حادا يدور بين ماريا وأحد الممثلين عن بعض الأخطاء التي ارتكبت أثناء عرض المسرحية، كان جميع الممثلين والممثلات متواجدين في المكان، يصغون إلى النقاش. وقفت دون أن أتكلم، استمع إلى النقاش. كانت ماريا تتكلم بانفعال واضح وهي تخلع ثياب التمثيل لترتدي ثيابها أمام الممثلين والممثلات والفنيين. لم يبق على جسدها سوى البكيني، وحمالة الصدر. كانت تمارس ذلك بكثير من التلقائية والعفوية وكأنها في غرفة نومها ولوحدها. أثناء ذلك اكتشفت أن الحزام الذي يثبت الحمّالة على الصدر تعرض للتلف، لذلك خلعت الحمالة ورمتها جانبا. برز ثدياها حران يترجرجان أثناء حركتها. شعرت بغيرة شديدة وأنا أرى ثدييها مع الحلمتين يظهران للجميع. شعرت أن جسد ماريا قد انتُهك من قبل عيون الآخرين، وأن هذا الجسد الذي يخصني وحدي قد أصبح مشاعا للعموم. لم أعد أتحمل أن يبقى واقفا وشاهدا على هذا الانتهاك لجسد من أحب، لذلك خرجت من المكان. أشعلت سيجارة، ورحت أتحرك جيئة وذهابا أمام البناء وانا أزداد توترا. عندما خرجت ماريا من المسرح، أسرعت إلى السيارة، وأخذت مكاني خلف المقود بينما جلست ماريا بجانبي. سألتني:
ــ أين ذهبت؟ لمحتك في الداخل ثم اختفيت.
لم أرد على سؤالها. أقلعت السيارة بسرعة كبيرة، جعلت ماريا ترتد للخلف بقوة وهي تحاول أن تضع حزام الأمان. نظرت الي بدهشة وقالت:
ــ ما بك؟ لماذا تسوق بهذه الطريقة الخطرة؟
لم أجب، بل زدت من سرعة السيارة. تحولت هذه الغيرة إلى عدوانية عنيفة، راحت تتفجر في أعماقي، وتحاول أن تجد معبرا لها لتخرج. يبدو أنها تسربت إلى قدمي التي راحت تضغط على دواسة البنزين لدرجة أن السيارة كادت أن تطير في الهواء. تصاعدت العدوانية مع تصاعد السرعة، بينما ماريا راحت تنظر إلى عداد السرعة الذي يرتفع بشكل جنوني ثم تنظر إلي. قالت محذرة:
ــ ماهر أنت تقود بشكل خطر. أرجوك توقف.
وعندما لم أستجب لكلامها صاحت:
ـ ماهر، توقف، أطلب منك أن تتوقف.
خففت السرعة، ثم انعطفت إلى اليمين، ودخلت مسربا يوازي الشارع الرئيسي ويوازي رصيفا عريضا يقع على طول لسان مائي، وهو أحد التداخلات الكثيرة جدا ما بين اليابسة والماء، التي تشكل بمجموعها الأرخبيل المائي الضخم في بحيرة مالارين، حيث تقع مدينة ستوكهولم. هذا المسرب قادني إلى مكان مخصص لوقوف السيارات الذي يمتد على طول الرصيف المائي. أوقفت السيارة واستندت إلى مسند الكرسي. صاحت ماريا:
ــ ما بك، هل جننت؟
انفجرت بوجهها كلغم، ورحت أصرخ وأشتم. شتمت كل ما يخطر على بالي، النساء والرجال والجنس والجسد والجندر. شتمت نفسي وأبي وجدي لأنهما سبب ولادتي هنا، شتمت المجتمع الشرقي والغربي. توقفت عن الصراخ وأنا ألهث بسبب شدة الانفعال، كان تنفسي سريعا ومضطربا.
تفاجأت ماريا بهذا التدفق الهائل من الانفعالات الحادة والخطرة. بقيت صامتة، تنظر إلي بدهشة، لم تصدق ما ترى وما تسمع. ساد صمت ثقيل. استندت ماريا على مسند الكرسي، بينما وضعت يدي على المقود وأسندت رأسي عليهما، وبدأت أهدأ شيئا فشيئا. بعد لحظات رفعت رأسي، ونظرت إلى الخارج، رأيت الرصيف العريض الممتد على طول اللسان المائي، تليه قوارب كبيرة نسبيا وكثيرة العدد، تصطف إلى جانب بعضها البعض، والماء بدا لي أسود، يتموج بشكل خفيف، يمتد إلى الطرف الآخر حيث تنهض الأبنية مرة أخرى. التفت إلى اليسار رأت بنايات كثيرة عالية، تصطف على امتداد الشارع. ركزت النظر على إحداها، مكونة من أحد عشر طابقا، ليست كلها منارة، لمحت أشخاصا يتحركون. رحت أفكر إن كان هناك، من بين سكان تلك البناية، زوجان يتشاجران ويصرخان ويشتمان بعضهما الآن، وربما في شقة أخرى هناك زوجان آخران يمارسان الحب، وفي شقة ثالثة، ربما هناك عائلة تحتفل بعيد ميلاد طفلهما. ثم رحت أُوسع الدائرة لتشمل ستوكهولم والسويد والعالم. هناك وفي نفس اللحظة من يموت ومن يولد ومن يتألم ومن يصرخ ومن يتشاجر ومن يحب ومن يمارس الجنس. هناك في العالم وفي نفس اللحظة يحدث كل شيء.
سمعت صوتها:
ــ خذني إلى البيت.
أدرت السيارة وانطلقت بهدوء أعبر شوارع ستوكهولم باتجاه الشقة، بينما بدت ماريا صامتة وهادئة في مكانها، تنظر إلى الشوارع. أوقفت السيارة في مكانها. نزلت هي واتجهت إلى البناية دون أن تنتظرني. نزلت بدوري من السيارة ومشيت ببطء خلفها، وأنا أفكر بالهدوء الذي حل علينا. لم تصرخ هي وتحتج وتسأل لماذا أنا فعلت كل ما فعلت. بالمقابل لم أتابع احتجاجي بعصبية وانفعال.
دخلت الشقة، ورميت الموبايل والمفاتيح على الطاولة، درت حول نفسي، اتجهت إلى المطبخ، شربت كأس ماء، ثم دخلت إلى الصالون. كانت ماريا جالسة على أريكة. اتجهت إلى الأريكة الأخرى وجلست، أمسكت جهاز التحكم وشغّلت التلفزيون، ورحت أقلب الأقنية. سمعتها تقول بهدوء:
ــ أعتقد أنك قد هدأت الآن، ويمكن أن نتحدث.
نظرت إليها، وخفضت صوت التلفزيون. تابعت:
ــ حسناً، قل لي لماذا كنت تصرخ؟
شعرت بالاستياء من هذا السؤال، حولت نظراتي إلى التلفزيون ورفعت الصوت. انزعجت ماريا لهذا التجاهل والاستخفاف بها. نهضت بعصبية، واقتربت عدة خطوات مني، ومدت يدها وأخذت جهاز التحكم مني، وأطفأت التلفزيون وقالت بحدة:
ــ عليك أن تحترم من يتحدث اليك، أنا سألتك وعليك أن تجيب.
قلت بهدوء لأني شعرت بالخطأ:
ــ أنا أستنكر هذا السؤال، إذ لا يعقل أنك لا تعرفين السبب.
ردت بتأكيد:
ــ نعم أنا لا أعرف، ولو أنني أعرف لما سألتك أو لربما عالجت المشكلة.
مرت لحظات صمت وكلانا ينظر إلى الآخر. هي تريد مني الإجابة، بينما كنت مترددا. قالت:
ــ قل، لماذا كل هذا الانفعال؟
قلت:
ــ لأنني أغار عليك.
سادت لحظات من الصمت العميق. كانت عينا ماريا تتكلمان، دارتا في محجريهما دورة كاملة ثم توقفتا فجأة وهما تنظران إلي. بقيتا ثابتتين تنظران بدهشة لثوانٍ ثم تحولت الدهشة إلى استنكار مع مزيج من السخرية. قالت:
ــ تغار عليَّ! لماذا؟ وممن؟
قلت:
ــ لا يوجد أحد محدد، ولكنك تخلعين ثيابك أمام الجميع
ازدادت دهشتها وفغرت فاها، ثم راحت تضحك. شعرت بالخزي وهي تضحك. في البداية ضحكت بشكل عفوي ثم راحت تتصنع ضحكتها وكأنها في دور في مسرحية. تحول الخزي الذي شعرت به للتو إلى انزعاج، توترت أعصابي وصرخت بوجهها:
ــ توقفي عن التمثيل، نحن في البيت ولسنا على خشبة المسرح.
توقفت ماريا عن الضحك وراحت تنظر الي. شعرت أنها قوية وأنا ضعيف. بقيت هادئة وسألتني بسخرية:
ــ لماذا تغار أيها الشاب الجميل؟
أجبت بضيق:
ــ أولا لا تسخري، ثانيا نعم لأنك تفعلين ذلك…..
لم أكمل كلامي، قاطعتني:
ــ لنفترض أننا على شاطئ البحر أو في المسبح. ما هو الغريب في الأمر.
قلت:
ــ أولا لكل مكان خصوصيته، المسبح يختلف عن الشارع الذي يختلف عن غرفة النوم، إلى آخره.
سألتني:
ــ حسناً، سأرد عليك بهذا الخصوص، ولكن لم تقل لماذا شعرت بالغيرة.
أجبت:
ــ لأنني شعرت أن الآخرين يشاركوني أشيائي الخاصة، التي لا يجوز لأحد رؤيتها..
قالت باستنكار:
ــ أشياؤك الخاصة!! هل أنا أصبحت من أشيائك الخاصة!؟
قاطعتها:
ــ لا تفهمي كلامي بحرفيته. بالتأكيد لست أشياء، ولكن هناك أماكن في الجسد لا يجوز لأي كان رؤيتها، أنا اشعر أنها لي فقط.
قالت:
ــ لا, أنت أنت، وأنا أنا. هل فهمت؟ ليس لديك أي أشياء خاصة في جسمي، يعني أنت لا تملكني ولا تملك أي قطعة من جسمي، كما ليس لدي أي أشياء خاصة في جسمك، ولا أملكك. نحن نحب بعضنا ولهذا السبب أمنحك جسدي وتمنحني جسدك وليس لأن لك الحق في أن تمتلك جسدي.
قلت:
ــ لست بحاجة إلى هذه المحاضرة، أنا قصدت أن هناك حميمية في العلاقات لا يجوز لأي أحد الاطلاع عليها. لا يجوز باسم الحرية الشخصية أن نمشي عراة في الشارع وأن تمنحي جسدك لأي عابر.
أحست ماريا بالإهانة لذلك قالت بعصبية:
ــ أنا حرة، أمنح جسدي لمن أريد وليس لك علاقة في ذلك. رغم أنك ولدت هنا ولكنك لم تتخلص من القيم التي تربيت عليها وهي أن جسد المرأة تابو، وهو ملك للرجل، ما زال دماغك محشوا بتلك القيم التافهة والغريبة عن المرأة والرجل. ما زلت ترى أن الرجل هو حارس للقيم والمرأة سبب الشر.
قلت:
ــ وأنت لم تتخلصي من عنصريتك التي تربيت عليها، ما زال دماغك محشوا بقيم المجتمع الغربي الذي يدعي التفوق على الآخرين. أنتم مزيفون في ممارسة الكثير من القيم، تمارسونها ولكن في أعماقكم ما زال الوحش قابعا هناك. .
ردت ماريا:
ــ لا تقل ” أنتم ” نحن اثنان، فرد يخاطب فردا، خاطبني أنا، لا توجه كلامك للمجتمع، قل أنت ولا تقل أنتم. ثم أنا لست عنصرية والدليل أننا نعيش سوية في نفس الشقة وأحبك، أليس كذلك؟
صمت، جلست على كرس قريب من النافذة، بينما دخلت ماريا إلى غرفة النوم. شعرت أنني غير مرتاح، نهضت وغادرت الشقة، نزلت إلى الشارع واتجهت إلى موقف السيارات. ركبت سيارتي وقدتها إلى لا هدف محدد. كان مقياس الحرارة يشير إلى ناقص ثمانية. حركة السيارات عادية في الشوارع. رحت أفكر بعلاقتي مع ماريا، كيف كانت وما هي الأحداث أو المواقف التي جرت بيننا. لم يكن موقفي هذا وغيرتي عليها قادمة من فراغ ولا أتت فجأة، بل نتيجة ممارسات ومواقف كثيرة تراكمت مع مرور الوقت. لم أستطع أن أقتنع بالكثير من ممارسات ماريا على الرغم أنني قد تخلصت من كثير من الأفكار التي تربيت عليها بخصوص المرأة عموما. ليس من السهل أن يتخلص المرء من أفكار الأهل والمجتمع والدين التي زُرعت في عقولنا ونحن أطفال. بل إنها عملية صعبة جدا لأنها تدخل في تكوين الفرد، تصبح جزءا من ضميره. ولكن ألا يوجد حدود لكل شيء؟ أليس للحرية حدود؟ ألا يمكن أن تتحول إلى فوضى؟ هل ماريا تبالغ في حريتها الشخصية؟، أم أنا ما زلت أسير تربيتي المحافظة والتي لم أستطع التخلص منها؟ تذكرت الكثير من المواقف التي كانت صادمة في البداية، ثم تجاوزتها ليس لأنني مقتنع بها بل لأن الحياة يجب أن تستمر. طيلة فترة طفولتي ومراهقتي وأنا أُعاني من هذا الخلل الناشئ من طريقتين مختلفتين في التربية، ومن مجموعتين من القيم، قيم المدرسة والمجتمع السويدي، وقيم البيت والعائلة الأكبر والمركز الإسلامي. لم يصغ أحد لي ولم يساعدني أحد في حل هذا التناقض. بقيت أسير هذا الصراع الذي يخبو أحيانا ليشتعل مجددا. بعد العشرين استطعت أن أجد بعض الحلول وأتجاوز الكثير من المشاكل، إلا أن هناك مشاكل يصعب تجاوزها لأنها دفينة النفس البشرية وبحاجة إلى الكثر من الجهد للتخلص منها.
وجد نفسي أقود السيارة على طريق ” روستا ستراندفيغ ” ثم دخلت إلى الدوار وأخذت أول مخرج إلى طريق إيفينيمانغس غوتان ” ثم أوقفت السيارة في موقف السيارات أمام ” مول إسكندنافيا ” “.
دخلت إلى البناء، قمت بجولة في أرجاء المكان ثم دخلت إلى كافيه وأخذت كأساً من القهوة وجلست إلى طاولة ورحت أستعرض المارة. تيار متدفق من البشر، من مختلف الأديان والقوميات والألوان، صغار وكبار، صبايا وشباب. رحت أخمن ما الذي يفكر به هذا الرجل أو هذه المرأة، ذاك الشاب أو تلك الصبية. هل هذان زوجان أم عاشقان؟ هل تلك المرأة تكلم العجوز التي بجانبها عن زوجها اللئيم؟ هذا الرجل الذي يمشي لوحده وفي عجلة من أمره وهو يكلم نفسه، هل هو يشكو همه لنفسه من زوجته أم من رئيسه الذي يضغط عليه ويضايقه ليترك عمله؟
نسيت خلاقي مع ماريا، وأمضيت أكثر من ساعة وأنا أراقب هذا التيار من البشر، الذي يتجدد دائما. ثم نهضت وخرجت من البناء إلى حيث السيارة، قدتها عائدا إلى البيت.
في الصباح استيقظت على صوتها وهي توقظني. فتحت عيني، رأيتها تنحني علي وتبتسم، ثم تبادلنا قبلة سريعة وقالت بالعربية:
ــ يلا يلا.
ثم أكملت بالسويدية:
ــ اذهب إلى الحمام وأنا سأجهز الفطور.
نهضت بتكاسل، ذهبت إلى الحمام وقمت بكل ما يلزم، ثم دخلت إلى المطبخ حيث ماريا، وقد أعدت الفطور، تتصفح الجريدة بانتظاري. تناولنا الفطور وكأن شيئا لم يحدث، وذهب كل منا إلى عمله على أن نلتقي مساء لنتناول العشاء الذي لم نتناوله في اليوم السابق.
عدت إلى المنزل الساعة الخامسة مساء. أخذت دوشا، وبدلت ثيابي استعدادا للذهاب إلى المطعم برفقة ماريا. سمعت صوت الجرس يقرع، لا بد أن يكون كاظم، فلا أحد غيره يقوم بهذه الزيارات المفاجئة. فتحت الباب، رأيته واقفا يتأبط حقيبته التي ودائما إلى جانبه. ابتسم لي وقال جملته المتكررة دائما:
ــ أعلم أنني زائر مزعج. وهذه ضريبة كل من يصادقني.
قلت ممازحا:
ــ ميزتك الإيجابية أنك تعترف بأخطائك.
قاطعني وهو يدخل:
ــ سوف أكمل عنك.
تابع ما كنت سوف أقوله، وهي إجابة أُكررها دائما:
ــ ومشكلتك يا كاظم أنك تكرر هذا الخطأ دائما.
مشى إلى الصالون دون أن يخلع حذائه. وقبل أني جلس قلت:
ــ كاظم، عد واخلع حذاءك.
ضحك وعاد إلى حيث الباب وخلع حذاءه، وسترته وعلقها قرب الباب، وعاد إلى الصالون. وضع حقيبته جانبا وجلس وهو يسأل:
ــ أين ماريا، ما هي مشاريعكم اليوم؟
قلت:
ــ ماريا قادمة خلال بضع دقائق تصل. مشاريعنا سوف نذهب لنتعشى في المطعم. بإمكانك أن ترافقنا.
قال:
ــ لا أعتقد أنكم سوف تذهبون، لأن ماريا اتصلت بي وطلبت مني المجيء إلى هنا.
ضحك وتابع:
ــ وعندما آتي إلى مكان ليس من السهولة أن أخرج منه.
قلت:
ــ ولكن ماريا لم تخبرني.
قال ممازحا:
ــ ليس مهما أن تخبرك، فأنت ليس إلا زوجا.
ضحكنا كلانا، لأنه يقصد بهذه الجملة معنى آخر غير الذي قاله، معنى جنسيا بحتا، كان قد شرحه لي سابقا.
رن موبايلي، كانت المتصلة ماريا. كلمتها وقالت إنها اتصلت بي مرتين، ثم أخبرتني أن كاظم سوف يأتي إلينا، وسوف نلغي الذهاب إلى المطعم، وأضافت أنها مرت على مطعم وجلبت معها طعاما وسوف تصل بعد دقائق.
بالفعل عندما نظرت إلى سجل المكالمات، رأيت مكالمتين من ماريا عندما كنت في الحمام. نظرت إلى كاظم وقلت ممازحا:
ــ أنت إنسان سيئ الظن. اتصلت بي ماريا مرتين، ولكنني كنت في الحمام.
قال كاظم:
ــ تأكيد هذا، أن ماريا اتصلت مرتين بك، يؤكد أنك الطرف الأضعف في العلاقة.
قلت:
ــ لم أفهم ما قلت. ما علاقة الاتصال بكوني الطرف الأضعف؟
ضحك وتابع في شرح فكرته عن الأزواج أو حالات السامبو:
ـــ دائما هناك خلافات ضمن مؤسسة الزواج بين طرفيها، وهذا طبيعي لأن هناك من يجب أن يسيطر ولو قليلا. لا أقصد بالسيطرة المعنى السلبي لها، ولكن أقصد الإدارة أو اتخاذ القرارات، وهذا يعود إلى أن أحد الأطراف لديه نزعة، ميول للسيطرة، أو مقدرة على الإدارة واتخاذ القرارات. في حالتنا هذه، أقصد أنا وأنت، لأننا على علاقة مع نساء سويديات، السيطرة أو الإدارة تأخذ بعدا حضاريا، تتعلق بشعور الطرف الأول بالتفوق على الطرف الآخر كشعب أو قومية أو مجتمع. هذا الشعور يمنح ماريا أو انيتا أن تقود العلاقة الزوجية وأن تقرر كل شيء، ولا تقبل أن يكون لي أو لك رأي نافذ، لذلك تكثر المشاكل بين الأزواج من أصول مختلفة.
قلت:
ــ أنت لديك حساسية هائلة من كونك من أصول غير سويدية أو أوروبية، هذه الحساسية تجعلك تفسر كل شيء من هذا المنظور، علاقة الشرق بالغرب، أوروبا بالشرق الأوسط أو العرب تحديدا. عندما تفكر أنك مواطن سويدي سترى كل شيء على حقيقته وسوف تفكر بطريقة سليمة.
قال:
ــ هذا وهم يا صديقي، أو لنقل كلام نظري فقط. لن أشعر أنني سويدي، ولا حتى الجيل الرابع من أولادنا لن يشعروا أنهم سويديون.
توقف كاظم عن الكلام لأن ماريا فتحت الباب ودخلت. قلت:
ــ ماريا أتت يمكن أن نتناقش معها، وهي تمثل الطرف الآخر.
قال وبسرعة وبصوت منخفض:
ــ لا أريد أن أفتح نقاشا معها الآن.
بعد أن أتت ماريا وتناولنا العشاء مع أحاديث متفرقة، انتقلنا إلى الصالون وقد أعدت ماريا القهوة وقالت سوف أناقشكم بموضوع هام بالنسبة لي. قال كاظم:
ــ أعطني فرصة خمس دقائق، لكي أخرج إلى البلكونة وماهر أيضا، لندخن سيجارة، لأنه بدون التدخين لن أستوعب أي شيء سوف تقولينه.
ابتسمت ماريا وقالت:
ــ حسنا.
خرجنا إلى البلكونة ومعنا فنجانا قهوة. دخنت سيجارة بينما كاظم دخن سيجارتين، ثم عدنا إلى الصالون.
قالت ماريا إن لديها مجموعة من الأفكار تعالج مشكلة الاندماج في السويد. تريد منا أن نتناقش حولها وتريد من كاظم أن يصيغها في مسرحية. استمر النقاش إلى الساعة الثانية عشرة ليلا. اقتنع كاظم بالفكرة، بل تحمس لها، وقال إنه مستعد لتحويلها إلى مسرحية بعد أن تصيغها ماريا على شكل قصة. ثم وضعت ماريا خطة لإنجاز هذا المشروع بالاتفاق مع كاظم، الذي يستغرق ثلاثة أشهر. حددا مواعيد الجلسات والمراحل التي سيمر بها المشروع. وطلبا مني أن أكون معهما خطوة خطوة، لأنني سوف ألعب دور أحد الشخصيات، كما قالت ماريا.
بعد دقائق فُتح باب الغرفة وأطل الشرطي، ماغنوس، ذلك الشرطي الصامت الذي لا يتكلم ولا يبتسم ولا يغضب ولا يصدر عنه أي رد فعل. إنه أشبه بالآلة المكلفة بمهمة ما، ينفذها وبدقة متناهية، والذي كنت أعتقد أنه يكرهني ولكن تبين أنه لا يكرهني ولا يحبني، أو بدقة أكبر لا أعرف مشاعره تجاهي، إنه الرجل المغلق. وقف أمام باب الغرفة ينتظرني كي أخرج. قلت له:
ــ كيفك ماغنوس؟
لم يرد. اكتفى أن نظر إلي ثم أشاح بعينيه عني باتجاه النافذة. نهضت ورحت أرتب الطاولة. وضعت الأوراق التي كتبتها فوق بعضها البعض، والأوراق البيضاء فوق بعضها، ثم مسحت سطح الطاولة. أردت أن أجعله يغضب ولكنه خيب توقعاتي، لم يغضب ولم يتحرك من مكانه، كان قد صالب يديه على صدره وباعد من بين رجليه. سألته:
ــ ماتيلدا هنا؟
لم يرد. تبادلنا النظرات فقط ثم اضطررت للخروج من الغرفة بعد أن فشلت في جعله يتكلم. ليست هذه المرة الأولى التي أحاول أن أقيم حوارا معه أو أن أجعله يتكلم. مرة واحدة نجحت في سماع صوته. كان ذلك قبل أسبوعين وأنا قادم من الباحة الخارجية للسجن وكنت أحمل أوراقا وكان هو الشرطي المسؤول عن الحراسة. كنت ماشيا في الممر باتجاه الغرفة وهو كان يمشي خلفي. أسقطت وعن قصد بعض الأوراق وتابعت سيري. وقتها سمعت صوته:
ــ ماهر، لقد سقطت منك أوراقا.
التفت إليه وأنا ابتسم وقلت:
ــ إنه يوم جميل ورائع لأنني سمعت صوتك.
أصبح وجهه أحمر ووقف على بعد خطوات مني وأخذ وضعيته الشهيرة بأن صالب يديه على صدره وباعد بين قدميه، بينما التقط الأوراق. نظرت إلى وجههه متفحصا، لم يتبين لي أنه غاضب أو مسرور. قلت له ممازحا:
ــ بالفعل إنه أجمل يوم يمر وأنا هنا.
التقط المغزى من كلامي وقال:
ــ ليس مهمتي أن أتكلم معك أو مع غيرك.
اتجهت إلى صالة الطعام بينما تابع ماغنوس مهمته في فتح أبواب الغرف كي يخرج السجناء إلى المطعم.