منصور المنصور – الناس نيوز
بعد أن انتهى عرض المسرحية، لم يعد من مبرر لأن ألتقي مع ماريا. عدت إلى حياتي الاعتيادية، بيت، عمل، بيت. فقط يوم السبت كان يكسر هذا الروتين. شعرت أن حياتي لم تعد كما كانت قبل أن أتعرف على ماريا. بل أنا لست أنا قبل وبعد تجربة العمل المسرحي. هناك تغييرات كثيرة طرأت على حياتي، من أهمها حبي لها.
أتى الصيف ثم الخريف، وانتهيا دون أن أراها. رحت استعين بالذكريات لأرمم الحنين الذي راح يحفر في أعماقي ويلح عليَّ لرؤيتها. رحت استعيد أيام التدريب، تذكرت كلامها، انفعالاتها، ضحكاتها، كلمات التشجيع التي كانت تقولها لي. رحت أدقق في تلك الذكريات لأتأكد إن كانت تحبني أم أن الحب كان من طرف واحد. استرجعت وتفحصت الأحاديث التي دارت بيني وبينها، النظرات وكل الحركات التي كانت تقوم بها، لكي أقنع نفسي أنها تحبني. مرت الأيام، لم تعد الذكريات تكفي، شعرت بفراغ، بضجر من ليالي الشتاء الطويلة والمملة. حتى أن لقاءات السبت لم تعد تفي بالغرض، ولم تعد تُمتعني، بل أصبحت مملة، لا جديد فيها. نفس الشخصيات ونفس الأحاديث تتكرر كل سبت. جوان اللطيف والصامت أغلب الأوقات وفيكتوريا المرحة والتي تلقي النكات أحيانا، وعلاقتهما التي لا تتغير ولا يطرأ عليها أي حدث درامي، علاقة ثابتة كمياه البحيرة لا تنقص ولا تزيد. حتى علاقة كاظم وأنيتا المتغيرة والمتوترة دائما، أصبحت بالنسبة لي مضجرة، لأن التغيرات والإثارة التي تحدثها تلك العلاقة أصبحت تتكرر، لا شيء جديد بها. يعيدون أو يعانون من نفس المشاكل، وتصدر عنهم نفس ردود الأفعال، ويبحثون عن نفس الحلول. لم أعد أطيق الابتعاد عنها أكثر من الفترة التي مرت. حاولت الاتصال بها أكثر من عشرين مرة، وفي كل مرة أتراجع في اللحظة الأخيرة، لأنني كنت أخاف من ردة فعلها، أخاف من الخيبة المحتملة. فكرت في إيجاد مبرر واحد للاتصال ولكني لم أجد. ماذا سأقول لها إن هي سألتني عما أريد!
في أحد أيام الجمع وكالعادة خرجت من العمل، وأخذت الميترو باتجاه البيت. نزلت في محطة الحي الذي أسكنه، وذهبت إلى مركز الحي للتسوق. دخلت ” الشوب سنتر ” الذي هو عبارة عن سوق كبير، مغلق ومدفأ، يحتوي على عدة مولات كبيرة ومشهورة ومحلات متوسطة الحجم، ومطاعم وكافيات. فيه كل ما يحتاج المتسوق. اشتريت ما أحتاج خلال دقائق، لأنني أكره التسوق، ثم اتجهت إلى المنزل.
في المنزل بدأت أطهو الطعام، وأعطيت لنفسي الوقت الكافي لأن لدي فائضاً من الوقت. ما أن أوشك الطعام على النضوج حتى رن جرس الباب. لا بدّ أنه كاظم، فلا أحد يأتي بدون موعد إلاه. فتحت الباب وانا مرتاح لقدومه وقلت:
ــ أهلاً كاظم.
دخل دون أن يرد التحية وبيده ” بطل نبيذ “، وقال:
ــ رائحة طعام طيب.
قلت:
ــ أعتقد ذلك.
جهزت الطاولة ووضعت صحنين وسكبت الطعام في قدر كبير نسبيا. جلب كاظم كأسين للنبيذ ووضعهما مع زجاجة النبيذ على الطاولة وجلس. قلت:
ــ لا أريد النبيذ.
قال باستنكار:
ــ لماذا؟
قلت:
ــ لا أشرب إلا يوم السبت ليلا.
سكب لنفسه وقال:
ــ حياتك مملة كالسويديين.
راح يقدم فلسفته عن الحياة معتبرا أن كل الاحتياجات المرتبطة بالمشاعر والتي تؤثر على مزاج الإنسان لا قانون لها ولا يجوز ضبطها بقانون. وقت شرب الخمر عندما يشعر الإنسان أنه يحب أن يشرب، ووقت ممارسة الجنس عندما تثار غريزته ويشعر بالرغبة في ذلك.
قلت:
ــ في هذه الحالة تصبح عبدا لغرائزك وتقلبات مزاجك.
قال:
ــ نعم وهو كذلك.
فوجئت بإجابته وإقراره أنه يتبع غرائزه. كان هدفي استفزازه ودفعه لإنكار ما قال. تابع كلامه:
ــ هذا الأمر لا يقتصر عليً فقط، إنه يشمل الجنس البشري. إن الغرائز هي التي تحرك العالم قاطبة، وهي التي تثير الحروب وتسبب المآسي والكوارث، وهي سبب التقدم العلمي والاكتشافات والاختراعات. هي التي جعلت حضارتنا سهلة وفيها الكثير من الرفاهية، وهي التي أوصلت الإنسان إلى الفضاء. وهي السبب في المجاعة في أفريقيا، وقتل ما لا يقل عن ثلاثة ملايين عراقي وسوري خلال العشرين سنة الماضية، وملايين الأفغان والصوماليين قبل ذلك بقليل. الغرائز تشكل الحافز والدافع لكل شيء في الوجود. رغم أننا ننكر ذلك ليل نهار، ونترفع عن الإقرار والاعتراف بهذا، إلا أنها تبقى سيدة الموقف بلا منازع. الإنسان يمارس سياسة الإنكار كي يرضي نرجسيته. فهو لا يحب أن يضع نفسه بالمقارنة مع الحيوانات التي حياتها محض غرائز. الإنسان يمارس الإنكار ليقول إنه أرفع وأرقى من الحيوانات، فهو حيوان مفكر مبدع وكل تلك الترهات، ولكنه في الواقع هو يغطي حيوانيته بقشرة رقيقة من الادعاءات. انظر بعمق إلى واقع الإنسان عموما تجد أنه عبد للغرائز. غريزتا العدوانية والبقاء هما الأصل، ثم تتفرع عنهما غرائز كثيرة كـ “الأنا ” وحب الذات والاستحواذ المرضي وغير ذلك. إنها الغرائز التي تشعل كل تلك الحروب والمآسي وهي بنفس الوقت سبب لتطورنا والتقدم العلمي.
توقف عن الكلام. سكب لنفسه كأسا من النبيذ. سادت لحظات من الصمت. لأول مرة نتناقش في هذا الموضوع. أو بالأصح يعبر هو عن رأيه في هذا الموضوع. شعرت بفوضى في رأسي. لقد مارس كاظم سياسة الصدمة تجاهي. فلا قادر على الرد عليه ولا قادر على الاقتناع بما قاله. أحتاج إلى بعض الوقت لكي أفكر بوجهة النظر تلك.
قلت:
ــ أما لك رغبة في الأكل؟
قال:
ــ بالتأكيد.
سكب لنفسه صحنا، وبدأ يأكل. ثم بدأنا نتحدث عن أشياء متفرقة، العمل ومشاكله، الأهل في السويد، والأقارب في سوريا والعراق. ثم تحدثنا عن ماريا عندما هو سألني:
ــ ألم ترَ ماريا؟
قلت:
ــ لا منذ أن انتهى عرض المسرحية.
بعد الساعة التاسعة أصبح كاظم في حالة سكر. نام في مكانه على الأريكة. استطعت أن أمدده بشكل مستقيم وغطيته باللحاف، ثم أطفأت الإنارة وذهبت إلى غرفتي لأنام.
استيقظت صباحا. كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة. أسرعت إلى الصالون لأرى إن كاظم غير موجود. لا أعرف متى غادر ولكني وجدت ورقة على الطاولة، كتب عليها ما يلي ” أعتقد أن ماريا تحبك “.
هذه الجملة كانت صادمة، أيقظتني وأثارت لدي مشاعر حب جارفة لماريا. أعدت قراءتها مرات وكأنها حقيقة مسلّم بها. اتصلت بكاظم وقلت:
ــ لماذا كتبت تلك الجملة؟
قال:
ــ لأنك تحبها جدا.
سألت:
ــ وهي؟
قال:
ــ لا أعرف.
صحت باستنكار:
ــ لا تعرف! كيف ذلك!
قال:
ــ انتبه لما كتبت. انتبه لأول كلمة ” أعتقد “.
سألته:
ــ وكيف توصلت إلى اعتقادك هذا؟
قال:
ــ التقيت بها عدة مرات في الفترة الأخيرة، فمن خلال مجموعة من المواقف والتعابير التي تظهر على وجهها عندما أتكلم عنك بشكل أو بآخر استنتجت أنها تحبك. على كل حاول أن تلتقي بها.
سألت:
ــ ولكن كيف؟
قال:
ــ لا أعرف.
أنهيت المكالمة مع كاظم ورحت أدور في الشقة. حديثه جعلني أكثر تعلقا بها وأكثر توترا من السابق. ذهبت إلى المطبخ وأعددت القهوة ثم سكبت فنجان قهوة وخرجت إلى الشرفة لأدخن. أشعلت سيجارة وأنا أفكر بطريقة ما كي ألتقي بها. لم أستطع التركيز، بقي تفكيري أسير النقاش الذي حدث منذ قليل مع كاظم. أطفأت السيجارة في قطرميز صغير مخصص لأعقاب السجائر، ودخلت إلى الصالون. التقطت الموبايل ومفتاح الشقة ووضعتهما في جيب المعطف، ثم اتجهت إلى باب الشقة، لبست حذائي وخرجت.
لا أعرف لماذا خرجت، ولا إلى أين سأذهب. أشعلت سيجارة، وتركتها في فمي، ووضعت يدي في جيب معطفي ومشيت. كانت درجة الحرارة ناقص 10، والشوارع وممرات المشاة قد جُرفت وأُزيلت الثلوج المتراكمة، ورش البحص الصغير في ممرات المشاة لكي يقلل من خطر الانزلاق، بسبب تحول الثلج إلى جليد نتيجة انخفاض درجة الحرارة. رحت أصغي إلى وقع أقدامي على الجليد وأفكر بطريقة ما لرؤية ماريا. عندما لم أجد المبرر المقنع، قررت أن أتصل بها وأدعوها إلى فنجان قهوة. أما إذا سألتني عن سبب الدعوة سوف أقول لها إنه لا يوجد سبب، فقط أريد أن أراها. تحمست لهذه الفكرة، أطفأت السيجارة في سلة معلقة في الشارع مخصصة لذلك. وعندما أخرجت الموبايل ورحت أبحث عن اسمها تعالى صوت رنين الموبايل، وظهر اسم ماريا كمتصلة. ظننت أنني أرى اسمها خطأً، ولكن عندما دققت في الاسم تأكدت أنه اسمها. اقشعر بدني، إذ كيف يمكن أن تحصل هذه الصدفة! فتحت الاتصال وأنا مرتبك:
ــ مرحبا، صباح الخير.
ردت ماريا:
ــ مرحبا ماهر.
ثم أضافت:
ــ هل صباحك يبدأ الساعة الواحدة.
قلت:
ــ لأنك تتحدثين معي يصبح الوقت صباحا.
ضحكت ماريا وصاحت:
ــ أنت شاعر، هذا رائع، هل لديك وقت لكي نلتقي؟
أجبت باندفاع:
ــ طبعا لدي كل الوقت. متى؟
قالت:
ــ اليوم مساء….
توقفت قليلا ثم تابعت:
ــ الساعة الخامسة والنصف أو السادسة.
قلت:
ــ السادسة
اختارت ماريا مكانا للقاء، وأرسلت لي العنوان. اتصلت بكاظم وجوان واعتذرت عن القدوم إلى جلسة يوم السبت. في الخامسة وخمسين دقيقة كنت في المكان. دخلت، أجلت النظر لأختار مكانا مناسبا، لمحت أحدهم يرفع لي يده، عندما التفت رأيت ماريا جالسة في زاوية الكافيه، أسرعت اليها، تعانقنا وجلست قبالتها. رأيت أوراقا على الطاولة وفنجان قهوة وموبايل. قالت:
ــ غالبا ما آتي إلى هنا، عندما تكون لدي مسرحية لأقرأها ولأتخذ قرارا بشأنها، فالمكان هادئ يساعد على القراءة والتفكير.
كنت أصغي اليها، أنظر اليها نظرة العاشق، الذي لا يرى في هذا الكون إلا الحبيبة. تابعت ماريا:
ــ عُرضت علي مسرحية، قرأتها وأعجبتني، وأريدك أن تكون معي في دور مهم.
كنت مستعدا أن أقبل أي شيء، سواء كان دورا في مسرحية أم أي شيء آخر، المهم أن أكون إلى جانبها، أراها وأتحدث إليها. قبل أن أتكلم أضافت:
ــ هي مسرحية لكاتب سويدي، عاش في لبنان، بيروت، كمراسل لصحيفة أمريكية مشهورة، كتب قصة حب عاشها هو شخصيا.
قلت:
ــ حلو، هذا جميل.
تابعت ماريا:
ــ القصة تتلخص أن الكاتب أحب صبية لبنانية، كانت على علاقة مع شاب لبناني قبل أن تتعرف على الرجل السويدي. أنهت علاقتها به وأقامت علاقة مع الرجل سويدي. يكتشف الشاب اللبناني العلاقة. تشتعل نار الغيرة في أعماقه، يلاحقها ليمنع الزواج بينهما.
قلت:
ــ أنا جاهز.
تابعت ماريا:
ــ سأعطيك نسخة من المسرحية، اقرأها ومن ثم سوف نتناقش.
سألتها:
ــ هل القصة حقيقية؟
أجابت ماريا:
ــ نعم حقيقية. أنت سوف تلعب دور الشاب اللبناني.
توقفت قليلا ثم تابعت:
ــ القصة مشوقة، ولكن الأهم الرؤية. موضوع الغيرة عُولج كثيرا جدا وفي مسرحيات وأفلام عالمية. هنا سوف أتناوله من زاوية أخرى، وسوف نتحدث عن ذلك.
انتبهت أن المكان رومانسي إلى أبعد حد، أضواء خافتة، موسيقا ناعمة، لون الأثاث وغطاء الطاولات أحمر، لوحة معلقة على الجدار المقابل لي، تتعلق بحفلة رقص، تظهر الصالة مكتظة بأزواج من الرجال والنساء وهم يرقصون، وفي مقدمة اللوحة، يظهر رجل وامرأة يمارسان الجنس تحت إحدى الطاولات، غير مهتمين بما يدور من حولهما.
لفت نظري رجل، طويل، ذو عضلات ضخمة، دخل الكافيه، وعيناه مغروزتان في وجه ماريا، التي كانت تنظر إلى أوراق على الطاولة. مر بجانب الطاولة، ووضع يده عليها، ثم نقر بإصبعه على سطحها، وتابع طريقه إلى عمق الكافيه وجلس. عندما رفعت ماريا بصرها ورأته اضطربت، واحمرت وجنتاها وتكدر وجهها. حاولت ألا تلفت انتباهي. لملمت أوراقها وأشياءها بهدوء وهي تنظر بطرف عينيها إليه، ثم قالت:
ــ هل تحب أن تقرأ النص من الكمبيوتر أم أعطيك نصا ورقيا؟
قلت:
ــ لا يهم، أي شيء متوفر.
قالت:
ــ لدي الاثنان، أنا مثلا أحب الورق. على كل هذه نسخة ورقية وإن أردت ملفا يمكن أن أرسله لك.
أعطتني دفترا ذا سلك معدني. قلبت أوراقه ثم أغلقته ووضعته أمامي ونظرت إلى ماريا. كانت تنظر إلى ذلك الرجل خلسة بين حين وآخر. بدت مشوشة الذهن، مزاجها ليس جيدا. حاولت أن أصرف نظرها عن ذلك الرجل فرحت أحدثها عما فعلته البارحة واليوم الذي سبقه. تفاعلت معي بشكل جزئي، لم تكن حاضرة كعادتها بشخصيتها القوية والفعالة، بل كانت مضطربة قليلا. مر الوقت بطيئا جدا ومملا، ربع ساعة فقط ولكأنها يوم. نهضت ونظرت نظرة سريعة باتجاه ذاك الرجل الضخم، ثم التفتت إلي وقالت:
ــ يجب أن أذهب، نلتقي بعد أسبوع، في نفس الوقت، ما رأيك؟
نهضت وقلت:
ــ حسناً، أنا أيضا سأذهب.
خرجنا من الكافيه، وذهبنا باتجاهين مختلفين. هي ذهبت إلى المحطة المركزية لتأخذ الميترو وأنا ذهبت باتجاه أُوسترمالم حيث أسكن. في الطريق إلى شقتي، شعرت بالخيبة التي منيت بها بسبب ذلك اللقاء السيء، ولكن لدي أمل كبير أنني سألتقي بها ولعدة أشهر متواصلة.
التقينا بعد أسبوع. عندما دخلت، كنت جالسا أنتظرها. عانقتني، خلعت معطفها ووضعته على مسند الكرسي. ذهبت إلى المحاسب، طلبت قهوة مع قطعة معجنات محلاة بالعسل، ثم حملت طلبها إلى الطاولة وجلست. نظرت إليها بحب، بدت حزينة وهي تشرب القهوة. لاحظت أن لا أوراق لديها. سألتها:
ــ ماريا، ما بك؟
قالت بحيادية:
ــ ألغيَ مشروع المسرحية، اختلفت مع الكاتب وأنهينا التعاون بيننا.
قلت:
ــ ليكن، هو الخاسر، كل الكتاب يتمنون العمل معك.
لاحظت أن عينيها لمعتا بذلك البريق الذي كان يتوهج فيهما، والذي اعتدت عليه في الفترة السابقة. لمعان النجاح والنشاط الذي يجعلها كتلة من الحيوية والحركة. التقطت هذا الإحساس الذي بدأ يتشكل عندها، والذي بدأ يرفع من حالتها المزاجية. ارتاحت تعابير وجهها، وتشكلت ابتسامة على شفتيها وأنا أحدثها عن أشياء مختلفة. فجأة انهار المزاج الإيجابي عندها، وبدت قلقة ومتوترة وكأنها تريد الهروب من المكان. عندما التفت إلى مصدر القلق رأيت نفس الرجل الضخم يجلس قبالتها ويغرز عينيه في عينيها. قالت:
ــ لنخرج من هنا.
نهضنا وخرجنا بسرعة. كانت درجة الحرارة ناقص سبعة. مشينا متجاورين باتجاه معاكس لمركز المدينة. التفتت ماريا مرتين للخلف، ثم تأبطت يدي. سعدت لهذه الحركة، بل شعرت أنني أسعد إنسان. مشينا صامتين. فكرت في هذا الرجل. من يكون بالنسبة لها؟ ولماذا يلاحقها ولماذا هي تقلق عندما تراه؟ أردت أن أسألها عنه، ثم تراجعت لأنني أريدها أن تكون سعيدة معي، لذلك رحت أفكر في طريقة تجعل مزاجها رائقا. قلت:
ــ ما رأيك أن نذهب لمطعم ونتناول العشاء مع كأس من النبيذ؟
لم تجب ماريا، اكتفت أن هزت كتفيها وهي تنظر إلى الأمام، وعيناها تائهتان في الأفق. عاد الصمت بيننا كما كان. أنا أكره هذا الصمت عندما أكون معها، أريدها أن تكون حاضرة معي في كل لحظة. إلا أنها دخلت في عالمها الغامض بالنسبة لي. كانت مجرد جسد يسير إلى جانبي، بينما كانت تعيش صراعات قوية في أعماقها، لا تريدني أن أعرفها.
مشينا بشارع ستراند فيغن، حيث إلى اليسار تقع أوسترمالم وإلى اليمين أحد الألسنة المائية للأرخبيل الضخم الذي تقوم عليه ستوكهولم. على امتداد اللسان المائي تصطف القوارب ــ المطاعم. اخترت أحد البارات ـ المطاعم التي اعتدت زيارتها بين فترة وأخرى ودخلنا إليه. كان عدد الزبائن لا يتجاوز العشرة. اخترت مكانا قصيا وجلسنا. أتى النادل، طلبت منه ما نريد، بينما كانت ماريا تتأمل تموجات الماء الخفيفة وانعكاس الأضواء على سطحه. ربما جذبتها حركة الأمواج الخفيفة، وأدخلتها في دهاليز ذكريات أليمة مع ذلك الرجل الذي يرصد كل تحركاتها في المدينة.
بعد أن أصبحت الطاولة جاهزة لإقامة سهرة ممتعة، بدأت أحشد كل طاقتي الإيجابية لإخراج ماريا من قلقها وحزنها اللذين يمنعانها من التفاعل. وضعت يدي على يدها المسترخية على سطح الطاولة، وضغطت عليها برفق وقلت:
ــ ماريا، أتينا إلى هنا لنرتاح من كل الهموم والأحزان. أرجوك اِنسي كل شيء مزعج.
ثم رفعت كأسي وقلت:
ــ بصحتك.
رفعت ماريا كأسها وقالت:
ــ بصحتك.
سألتها:
ــ هل سمعت عن قصص ألف ليلة وليلة؟
أجابت:
ــ طبعا سمعت ولكن لم أقرأها.
حدثتها عن شهريار الملك المستبد، الذي يقتل كل يوم أجمل صبية في المدينة بعد أن يفض بكارتها، انتقاما من زوجته وزوجة أخيه اللتين خانتاهما. إلى أن أتى يوم لم يعد صبايا في المدينة، مما دفع الوزير، المكلف بإيجاد الضحايا للملك، أن يرسل ابنته، شهرزاد كضحية. ذهبت شهرزاد إلى الملك لتكون الضحية، إلا أنها استطاعت أن تؤجل موتها بأن راحت تقص على الملك قصة مشوقة إلى أن أتى الصباح. لم تنه شهرزاد القصة بل توقفت عن القص عندما وصلت الأحداث إلى ذروة الصراع والتشويق، مما دفع الملك أن يؤجل قتلها إلى اليوم التالي لكي يسمع بقية القصة. في اليوم التالي تابعت شهرزاد سرد قصصها التي راحت تتوالد من بعضها البعض، وكانت تتوقف عن الروي عندما يدركها الصباح بحيث تكون الأحداث في ذروة التشويق مما دفع الملك لأن يؤجل قتلها لليوم التالي. وهكذا تتالت الأيام وتتالت القصص ونجت شهرزاد من الموت، بل انتصرت على الموت بالروي وبالقصص التي أبدعتها.
كانت ماريا تصغي إلي باهتمام شديد. نظرت إلى عيني، تحثني على المتابعة. قلت:
ــ هذا هو الإطار العام لألف ليلة وليلة.
ابتسمت ماريا وسألتني:
ــ ماذا تريد أن تقول؟
أجبت:
ــ إذا كان هناك شهريار في حياتك فعليك أن تكوني شهرزاد. هو الكراهية وأنت الحب. هو العضلات وأنت الذكاء والحنكة. تغلبي عليه بذكائك ولا تهتمي لأمره.