ممدوح حمادة – الناس نيوز
كلمة سيادته في هذا العام لم تكن تختلف بشيء عن كلمته في العام الماضي وبمثل هذا التاريخ، ويمكن القول إنها نسخة ثانية عن كلمة السنة الماضية كما كانت كلمة السنة الماضية نسخة عن كلمة السنة التي قبلها، الذي حدث فقط هو تغيير التواريخ بما يلائم رقم هذه السنة، وهو على حق تماما حيث إنه لم يحدث شيء يذكر منذ أن لامست مؤخرته العرش قبل عقود من الآن، صحيح أنه سنَّ الكثير من القوانين وشكل اللجان التي ضمت مئات المختصين وعقدت عشرات الاجتماعات وصرف عليها ملايين الدولارات حتى توصلت إلى صياغة هذه القوانين الهامة ولكنها لا تزال عنده في الأدراج في انتظار اللحظة التي سيوعز فيها للجهات المختصة بتطبيقه,وعندما يسري مفعول هذه القوانين فإنه بالتأكيد سيتحدث عنها في خطاباته القادمة فليس من عادته أن يفوت الفرصة في الحديث عن إنجازاته التي سيظل الشعب يحتفل بها لأجيال متعاقبة، تقول الشائعات إن في أدراجه قوانين تخص حرية الصحافة وحرية تشكيل الأحزاب وغيرها من الحريات كما أن لديه في الأدراج مشروع دستور حقيقي غير قابل للتلاعب لا دستور مطاطي مثل هذا الذي جاء به، وأن لديه قانونا سيلغي به تطبيق الأحكام العرفية أيضا يقبع في الأدراج، كلها سيتحدث عنها حين تطبيقها أما الآن فلا حاجة للتعديل على كلمة سيادته التي بسبب التكرار فهو تقريبا يحفظها عن ظهر قلب ولا ينظر في الورقة التي أمامه إلا نادرا، كما أنه بعد كل هذه السنين تخلص تدريجيا من جميع الأخطاء اللغوية التي كان يقع فيها ويمكن القول إنه أصبح رمزا للفصاحة ومثالا للخطيب الماهر.
الشيء الوحيد الذي اختلف هذا العام عن العام الذي سبقه، هو أن سيادته كان بعد كل فاصلة وكل نقطة يتوقف أكثر مما يفرضه علم اللغة، وكان إضافة إلى ذلك يغمض عينيه وتتشنج عضلات وجهه لسبب مجهول، ثم يتابع كلمته من جديد بنفس الحماسة التي كان عليها.
دارت ظنون كثيرة حول سبب تلك الوقفات وتلك التشنجات ولكن أحدا لم يكن يتخيل السبب الحقيقي لها، حيث لا يعقل أن يحدث لسيادته ما يحدث لباقي بني البشر، فرغم عدم محبة الكثيرين من رعيته له إلا أنه وبفعل الموروث المترسب في لاوعيهم، كان الرئيس يحمل علاقة ما بالآلهة، خاصة وأنه كان ينافس الآلهة وملاك الموت تحديدا، بعدد الأرواح التي يخطفها كل عام بسبب وبدون سبب، ولكن سبب التوقفات التي كانت تتخلل كلمة سيادته كان الشيء الوحيد الذي لم يتوقعه أحد من الرعية الجاهلة.
لقد كانت بطن السيد الرئيس مليئة بالغازات إلى درجة لا تحتمل، وسبب توقفه الزائد عن الكلام بين الفينة والأخرى مستغلا الفواصل والنقاط ، كان سعي سيادته لتصريف هذه الغازات بشكل منتظم، أما تشنج عضلات وجهه فقد كان سببه سعيه إلى السيطرة على الأمر بحيث لا يصدر صوتا.
وقد كاد ينهي كلمته بنجاح متمكنا من تصريف الغازات على وضعية ( الصامت) لولا أن خانه الحظ في آخر مرة فصدر عنه ذلك الصوت الذي بذل كل ما في وسعه لكي لا يسمعه أحد.
لم يكن الصوت قويا لدرجة تسمعه الجماهير المحتشدة في ساحة القصر مصغية إلى كلمة السيد الرئيس، ولا حتى ليسمعه أعضاء الوزارة الذين كانوا يقفون على بعد أمتار خلف المنبر ولكن الأعين الساهرة التي كانت لصق السيد الرئيس من الخلف سمعت الصوت بوضوح، ولكي يغطي ما ظن أنه فضيحة، قام رئيس الحرس بالتصفيق بشكل لا إرادي وأخذ ينظر إلى الورزاء وكبار الموظفين مستحثا إياهم للانضمام إليه في عملية التمويه على الصوت، وهم أصلا لم يكونوا بحاجة لهذه الدعوة فبما أن واحدا صفق فعلى الجميع أن يفعلوا ذلك حكومة وشعبا، وهكذا صفقت الوزارة وصفق معها الشعب وكان تصفيقا حادا لم تشهد كلمات سيادته له مثيلا.
ولأن السيد الرئيس كان صامتا حين اندلع ذلك التصفيق، فقد كان كل يسأل الآخر عن السبب الذي جعلهم يصفقون، فقام رئيس الوزراء أولا بسؤال رئيس الحرس:
– لماذا نصفق؟
فهمس له هذا بالسر:
– السيد الرئيس ضرط.
وسرعان ما علم به الوزراء، ولم يلبث أن تسرب إلى الجماهير عن طريق التسلسل.
كان ذلك فضيحة كبرى لسيادته، خاصة وأن هذه كانت كلمته الأولى التي يدعو ممثلي الصحافة الأجنبية لحضورها وتغطيتها، ولذلك فقد كان على أعضاء الوزارة أن يجدوا مخرجا من هذا المأزق وإلا فإن تغيرا لا تحمد عواقبه، سيحدث في البلد، يكونون هم أول ضحاياه.
اجتمعت الوزارة ودعت عددا هائلا من المختصين في كافة مجالات النشاط البشري بما في ذلك خبراء في الفضاء والطب البيطري، وتم تشكيل خلية أزمة هدفها الوصول إلى مخرج قبل أن يرسل الفجر خيوطه الأولى.
عملت الخلية جاهدة لساعات طويلة واستعرضت كلمة السيد الرئيس عشرات المرات ودارت نقاشات حادة حول الكثير من الاقتراحات التي ثبت فشلها بسرعة، وعندما سادت قناعة راسخة لدى غالبية أعضاء اللجنة بعدم جدوى البحث تكلم خبير مغمور في السياسة الدولية ظل صامتا طوال الوقت، لقد اكتشف مصادفة غريبة ولكنها هدية قدمها القدر، فقد صادفت لحظة إطلاق الضرطة الرئاسية مباشرة بعد ذكر اسم الرئيس الأمريكي ترامب الذي يعتبر بصفته رئيسا للولايات المتحدة العدو التاريخي للأنظمة التقدمية، إذا فإن سيادته فعل ذلك قاصدا وعن عمد، ولم يكن ذلك حركة لا إرادية أملتها على فخامته عضلات رخوة في ذلك الجزء من بدن السيد الرئيس كما يمكن أن يتصور الحاقدون، هذه هي النتيجة التي توصلت إليها خلية الأزمة ورفعت بخصوصها مذكرة رسمية إلى رئاسة مجلس الوزراء الذي رحب بها وتبناها.
في اليوم التالي خرجت جميع الصحف بنفس العنوان تقريبا، وهو العنوان الذي وزعته وكالة الأنباء الرسمية للخبر الأساسي الذي أوصت بأن يحتل الصفحة الأولى منها جميعا، ويقول بالحرف الواحد: ( مصطلح جديد يضاف إلى لغة العلاقات الدولية) أما فحوى الخبر فهو أن ترامب لا يستحق الخطاب إلا بهذه اللغة .
تدفق على الصحف سيل هائل من التحليلات السياسية التي تناولت الموضوع من وجهات نظر فلسفية وفكرية مختلفة، أُغلقت الصفحات الثقافية وتم التخلي عن الإعلانات التجارية لاستيعاب هذا الكم الهائل من التحليلات، ولكي لا يفقد الشعراء أماكنهم في الصحافة بدأت تظهر قصائد في مديح الضرطة، وسرعان ما تبناها البعض كموضوع لأطروحات الدكتوراه، ولم تبخل الأكاديمية العلمية ومراكز البحوث بدراسة تأثير ذلك الفص على الطب والاقتصاد وغزو الفضاء وحتى على التجارب النووية، ومن أجل التوضيح فقط فقد حصل انشقاق في مجمع اللغة حول تسمية الريح التي أطلقها سيادته فاصر بعض البروفيسرات على الإبقاء على اسم الضرطة لكي لا يبدو الأمر تهربا من فعل كان مقصودا بينما وجد القسم الآخر أن تسمية ريح سيادته بالفص فيها رومانسية أكثر وبعد التصويت تم بالأغلبية إقرار تسمية الضرطة واعتبار الفص من المرادفات الممكن استخدامها للكلمة في الخطابات غير الرسمية، وحلت المشكلة على هذا الشكل، بعد ذلك صدرت عشرات، بل مئات الأبحاث الخاصة بذلك، وبعد فترة ظهرت عدة أفلام سينمائية تتحدث عن الموضوع سرعان ما أعقبها عدة دراسات نقدية عن تأثير ضرطة سيادته على تطور الفن السابع، ولكن المؤرخين كانوا الأكثر إبداعا بين جميع أبناء طبقة “الانتلجنتسيا” فقد استطاعوا بفترة زمنية قصيرة جعل الضرطة الرئاسية منطلقا للتاريخ فأصبحتَ عندما تقرأ عن حدث ما، تشاهد في الأسفل تاريخ حدوثه بأحرف مختصرة (2 ق. ض.) أي العام الثاني قبل الضرطة أو (27 حزيران / 1 ب. ض.) أي العام الأول بعد الضرطة.
أما ترامب الذي حاولت صحافته في البداية أن تسخر من هذه الضرطة ، فقد أخذ يشعر بالحسد من سيادته على هذا النجاح الذي حققه، وقرر أن يستخدم هذه التقنية في حملته الانتخابية المقبلة التي توقع مستشاروه أن تساعده بشكل كبير في التفوق على منافسه الديمقراطي، ومن باب التجربة قرر ترامب استخدام التقنية التي اكتشفها السيد الرئيس في حربه مع بوتين والرئيس الصيني وعندما قرر إلقاء كلمة للحديث عنهما طلب من فنيي الصوت وضع المكبرات من الأسفل والخلف وأحدث ذلك دويا هائلا وردود فعل كبيرة جعلت الآخرين يردون عليه بنفس الطريقة. ويقال إنه منذ ذلك اليوم لم يعد الحكام يتحدثون بألسنتهم.
حررت في 21/5/40 ب. ض.