د . محمد حبش – الناس نيوز ::
لا توجد مادة تجمع السوريين أكثر من جدل الموتى، فما إن يعلن عن وفاة شخصية عامة حتى تضج ساحات الميديا بجدل صاخب حول الروح الراحلة، وتتناوب الاتهامات الجاهزة في الطرفين، بأشد ما يكون الاتهام السوقي جحوداً وافتراء ونكراناً، وهذا في الواقع هو جدل الأمم المنهارة اليائسة، وهي تفقد الأمل بالقيام.
لا تعرف في سوريا امرأة أكثر تأثيراً من منيرة القبيسي فهي منذ ثلاثين سنة أبرز الأسماء الحاضرة في المجتمع السوري، ومن المستحيل أن تضع قائمة لعشر نساء مؤثرات في المجتمع السوري دون أن تكون السيدة منيرة في رأس القائمة، ولن يقوم جدل في واقع المرأة السورية دون أن تكون محوراً واضحاً فيه، ومع أنه ليس لها أي درس عام ولم تظهر في أي وسيلة إعلام، ولكنها نجحت في تكوين جماعة واسعة الانتشار تعتمد نظاماً هرمياً دقيقاً، يوفر هيبة غير عادية للشيخة واحتراماً مهيباً للدائرة العليا حولها، وقدرة غير عادية في التأثير الشعبي العريض.
وفي الواقع فإنني لا أنكر الجانب الشخصي في كتابتي عن الفقيدة الكبيرة، فقد كانت على خلق عظيم، ولن أنسى موقفها الأبيض يوم كانت منابر الأوقاف والفتوى في سوريا تنشر بياناً أسود ضد كتابي المرأة بين الشريعة والحياة، يتناولني بالتكفير والزندقة، ومع أن رسالة الكتاب كانت بصورة ما نقداً شديداً للتوجه القبيسي في التربية النسائية، ولكنها أوفدت إلي أقرب تلميذاتها من الأمهات الفاضلات، وحملن لي رسالة تأييد غير متوقعة في ذلك الصخب العاصف، مؤكدة حبها واحترامها للدور الذي نقوم به في الوعي والتنوير.
لا يمكن أن ننسب إلى منيرة القبيسي أي ابتداع في الدين، فهي صورة التدين السوري المحافظ، وهي التعبير الواضح عن ثقافة أمهاتنا وأخواتنا وأعراضنا الشامية، كما تشاهدونها في دراما الحارة السورية وهي تطبق بدقة ما تعلمته من مشايخها في الفقه الشافعي، وتطبق في السلوك آداب الطريقة النقشبندية بكل ما فيها من صفاء ونقاء، وكذلك ما فيها من شطح وغلو، ففيها الرابطة الشريفة بين الشيخة والمريدة، وفيها حدثني قلبي عن ربي، وفيها كشف لي فرأيت، وفيها لا تعترض فتنطرد، وخطأ الشيخ خير من صواب المريد، وكن بين يدي الشيخ كالمريض أمام الطبيب، أو كالميت بين يدي غاسله، ومن قال لشيخه لا لا يفلح، ومن لا شيخ له فشيخه الشيطان، وغير ذلك في السلوكيات التي انتشرت في الطرق الصوفية واعتبرها رجال الطريق ضرورة تربوية لحض المريد على التزام شيخه والانتفاع بعلمه.
ولعل الجانب الوحيد الذي ميزها هو إصرارها على دفع النساء للتعلم، وكانت الخطة الذكية التي التزمتها الحاجة منيرة القبيسي هي تطوير التعليم، فقد كان حزب البعث قد منع الترخيص لكل أشكال التعليم الخاص، ومنع كثيراً من المدارس المرخصة سابقاً، ما أدى إلى إحجام هذه المدارس عن العمل، واستمر ذلك من 1963-2003، وخلال هذه الفترة شهد التعليم الإلزامي الاشتراكي تدهوراً شديداً في غياب المنافسة، فيما وفقت الحاجة منيرة إلى فكرة ذكية، وهي تفعيل الرخص القديمة للمدارس الخاصة خاصة تلك التي كانت بحكم المتوقفة تماماً، ونجحت بالفعل في حث رجال أعمال معروفين لشراء هذه الرخص واستثمارها بشكل تجاري، فيما كانت هي تقوم بتوفير الكادر التعليمي لهذه المدارس على نطاق واسع.
وخلال التسعينات بالذات بات أكثر من نصف التعليم الخاص بيد القبيسيات، ولم يكن ذلك نشاطاً خيرياً على الإطلاق بل كانت نشاطاً تجارياً بامتياز، يربح فيه أصحاب المدارس فيما تربح الحاجة منيرة توفير فرص التعليم والدعوة لطالباتها، وتميزت تلك المدارس بأسلوبها المحافظ وانفتاحها على اللغات الأجنبية، وكانت الطبقة البرجوازية تتسابق لتسجيل أولادها في مدارس القبيبسيات حيث عرفن بالجدية والمحافظة في التعليم، وهذا من وجهة نظري كان أكبر أسباب نجاح الحاجة منيرة في التأثير الاجتماعي.
ولم يكن سلوك القبيسيات مقبولاً عند النظام، وقد أغلق بالفعل عدداً من المدارس، ولكن لم يكن بوسعه أن يوقف كل شيء، خاصة أن الجماعة ليس لديها أي تجمع علني، ولا تشكل ضده شوكة ولا دباحة، ولكنه سمح بظهور مقالات وكتب كثيرة ترد على منهج القبيسيات وتتهمهن بشتى أنواع التهم، وحين أصدر الأحباش كتاباً عن للقبيسيات يتهمهن بالجهل وفساد العقيدة، تولت فروع المخابرات بحماس توزيع هذا الكتاب في الوسط الديني، بهدف تمزيق صورة الإجماع التي كانت تحظى به السيدة منيرة بين الجماعات الإسلامية، وترهيب البنات من الانخراط في برامج القبيسيات.
وقد ظل أمر القبسيات حتى 2011 لا يتعدى الجدل الفقهي بين السلفية والصوفية، ولم يكن في برامج القبيسيات شيء أكثر من نشر التدين في المجتمع المحافظ بين السيدات، ضمن إطار نظام هرمي تسلسلي أبعد ما يكون عن السياسة، يعمل في البيوت على شكل حلقات صغيرة دون أي إعلان أو إشهار.
ولكن مع قيام الثورة السورية تغير كل شيء، وخلال الأشهر الأولى ظهر من القبيسيات مجموعتان: الأولى تعمل في كنف النظام وتؤيد برنامجه وتتحمس للدفاع عن سلوكياته، والثانية انتمت على شكل فصائل وتنسيقيات معارضة وظهرت مجموعات نسائية ترفع اسم القبيسيات تعبيراً عن المشاركة في الثورة.
قناعتي ودون أدنى شك أن برنامج الشيخة منيرة القبيسي كان أبعد ما يكون عن الاتجاهين، وقد ظلت تمسك بفريقها النسائي وفق منهجها الأول في تجنب السياسة كلها والابتعاد عن كل تأثيراتها، وقد تلقيت منها أكثر من اتصال قبل بداية الأحداث ترجو وتؤكد أن لا يذكر اسمها في أي حراك سياسي وأنها غير راضية عن أي مشاركة وأنها ترغب في تعزيز منهاجها بنشر الذكر والتصوف والطريقة النقشبندية بعيداً عن التيارات السياسية، وكان يبدو عليها الامتعاض الشديد من انخراط بنات قبيسيات في العمل السياسي تأييداً أو رفضاً، وكانت تعلم يقيناً أن السياسة لن تخدم قضيتها في شيء.
ومع تقدمها في السن دخلت الحاجة منيرة في ظروف صحية صعبة حالت دون ظهورها في أي مشاركة أو حدث منذ أكثر من اثني عشر عاماً.
وفي غمار الأحداث ظهرت حاجة النظام لتأييد نسائي، وكان من السهولة بمكان أن يجد النظام بين القبيسيات من يقبل ها الدور، وتولى الشيخ البوطي إقناع عدد منهن بأفكاره في وجوب موالاة الحاكم وتحريم الخروج عليه، وكذلك في كراهية الحراك المنتفض واتهامه بالسلفية والوهابية ومعاداة التصوف، وكان تأثير الشيخ البوطي ظاهراً في الجماعة، وبالفعل فقد وضعت وزارة الأوقاف خطة لتطوير نشاط نسائي مؤيد للنظام، وأسست إدارة للعمل النسائي برئاسة سلمى عياش، وهي أول امرأة تسمى معاوناً لوزير الأوقاف، وانطلقت تتخير الفتيات من سائر الجماعات الدينية وبالتأكيد فقد انخرط كثير من القبيسيات في هذا البرنامج الحكومي الهادف إلى دعم النظام، وتلقت النساء المنخرطات فيه دعماً واضحاً وفتحت لهن المساجد للعمل العلني.
لم تكن منيرة تملك أن ترفض خطة الوزارة، ولم يكن بوسعها تأييدها بالطبع، وكانت قد دخلت في مرحلة متقدمة من الوهن والمرض، لا تسمح لها بالمتابعة اليومية للأحداث، وكانت تكتفي بلقاء مجموعة صغيرة من المقربات وتزويديهن بوصاياها في التربية والإرشاد.
يمكنني الاختلاف بشدة مع منهج السيدة منيرة في التربية والسلوك، وبكل تأكيد فإن كتابي المرأة بين الشريعة والحياة يمثل رداً واقعياً ومنهاجياً على ثقافة التزمت والتشدد، ولكنني لا أستطيع أخلاقياً أن أصمت عن الاتهامات الفاجرة التي تتناولها بغير بينة ولا دليل ولا برهان، ومن الواقعي والأخلاقي أنها لا تتحمل شيئاً من السلوكيات الموالية للظلم والاستبداد الذي تقوم به نساء الأوقاف، وهو خليط عشوائي من الجماعات الدينية الشامية والحلبية، وفي قدر غير قليل من الارتزاق والبلطجة، فهذا السلوك مناقض بالمطلق لسيرتها وحياتها التي كانت تتجنب بإصرار أي دور سياسي، ولا يوجد بحوزة أحد أي تسجيل مصور أو حتى صوتي أو حتى رسالة مكتوبة أو حتى شهادة من امرأة صادقة تزعم أن السيدة منيرة قد انخرطت بأي وجه في تأييد الاستبداد أو إهانة الثائرين.
رحلت السيدة الفاضلة وفية لمبادئها ورسالتها ومحرابها، وتركت بعدها جدلاً عريضاً هو ذاته جدل التنوير والتبرير، والعثار والقيام، والنهضة والهمود، والدين والسياسة، وهو جدل مستمر وسيبقى سلبياً جارحاً حتى تقوم دولة الحريات فيتحول إلى تراث نقدي ومحاكمة موضوعية بصيرة.