الحرب جزء دامٍ من الصراع في سوريا وحسب، والصراع الحقيقي والأعمّ هو التنافس السياسي والاجتماعي السلمي، الذي يبدأ خلسةً الآن وسيتسارع مع بداية مرحلة انتقالية طال انتظارها، حين يكون ثمة ضمانة لحرية التعبير، وقد تعلم معظم السوريين، وما زالوا يتعلمون، كيف يعبرون عن آرائهم، أو كيف يعبرون عن مصالحهم المتوافقة أو المتضاربة بالكلمات، عوضًا عن الرصاص، وهذه مجرد زهرة في أرض حريق السنوات العشر.
مثل هذا الصراع الديمقراطي، المستند إلى دستور وقوانين متحركة ومتطورة لتتلاءم مع تطور الحياة، هو ما يُخيف جميع المتعايشين على حرائق الحرب، والمستثمرين في دماء ضحاياها، والمحرضين على الفتنة، والطائفيين السابحين في الزبد الإسلامي، بنوعيه السني والشيعي، ولصوص الحرب ومرتزقتها وأمراءها، وكل المستفيدين من استمرار التفسخ الحالي والسائر نحو الهاوية بثبات.
ومهما تنوعت مسميات المستفيدين من الوضع القائم، فهم قلة، وقوتهم في تضامنهم على قاعدة المصلحة في تدمير ما تبقى من حياة السوريين، كعصابة من الأشرار نمت وازدهرت على دماء الضحايا. مثل هذا التضامن هو ما يفتقده السوريون الذين لا مصلحة لهم إلا في الحياة، والذين لم يدركوا بعدُ أهمية تكوين روابط وهيئات مدنية تجمع بينهم، أو لم يستطيعوا إنشاءها، بعيدًا عما يفرقهم من انتماءات لم يختاروها بحرية ويُساقون في تياراتها. صحيح أن هؤلاء، وهم الأغلبية، لم يحققوا ما هو مطلوب أو مأمول منهم، لكنهم باتوا يدركون حجم التفسخ السياسي والاجتماعي الذي يعيشون فيه ويخضعون لشروطه المذلة، وينتظرون أي حل بات لا يتوقف عليهم، على أمل أن يُحدث صدعًا في الجدار الأصم.
تذكرني الحالة السورية الآن بتوصيف للمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي في فترة صعود الفاشية قُبيل الحرب العالمية الثانية، حين وصف الوضع القائم بأن “القديم يموت والجديد لا يمكن أن يولد“، وللأسف فإن الحرب هي الحل حين تحدث الاستعصاءات في التاريخ. الآن، وقد أخذت الحرب أبعادها في سورية على ما يظهر، لم يبقَ للجديد إلا أن يخرج من عباءتها، وإن استمرار الواقع الحالي رهن بتوازن القوى التي تعمل على تثبيته ومنعه من الانطلاق والتدفق والانتعاش، فالمرحلة مؤقتة مهما بدت طويلة، يعززها اعتياد السوريين على العجز وانتظار من يسيّر لهم شؤونهم في السماء والأرض.
لم يكن التاريخ يومًا ملاذًا للضعفاء ما لم ينتظموا، ففي الاتحاد قوة، لكنه الاتحاد المبني على أسس جديدة يمكن أن تنتج فرقًا، من خلال توطين منجزات من سبقونا في فنون التنظيم والإدارة وبسط سلطة القانون وتحقيق العدالة، العدالة التي ستبقى سيفًا مسلطًا فوق رؤوس من انتهكوا الحياة وسفكوا الدماء.
هذه الحرب لا نبل فيها ولا كرامة، وقد فتكت بالسوريين، الأحياء منهم والأموات، كانفلات آخر للعنف لا طائل منه. وإن محاولة صبغ الموت بألوان الشهادة لم يعد مجديًا، وقد وصل الألم إلى حدود الصدمة. الضحايا هم الضحايا، والوفاء لهم يكون بتحقيق نوع من العدالة والعمل على منع تكرار ما حدث واقتلاع الأسباب من جذورها وصنع المستقبل بأدواتٍ جديدة، عمادها العمل على كل ما يحقق للمرء كرامته ويسهل عيشه ويرفع من مكانته، ويعتبره رمزًا للحياة، لا قربانًا لها.
وإن تضخم ذات السوري وفرديته المتطرفة، كحالة معروفة عنه، هي نتاج تاريخي لعدم وجود أرضٍ صلبة يقف عليها، وبقاء وطنيته على حدود الهشاشة، لأن وطنه لم يكتمل ويترسخ كمؤسسات ونظام حكم في دولة القانون، فعوَّض عن ذلك بتورمٍ في شخصيته، علّه يجد فيها تحقيقًا لذاته واحترامًا لها، ولكن هيهات! لقد كانت الحرب صادمة، والاستيقاظ من الصدمة الآن سيعقبه التفكير بطريقة مختلفة، أساسها الانتقال من الفرد متورم الذات إلى الفرد الواثق بنفسه والمنسجم مع محيطه.
لقد حان الوقت للانتقال من حالة الفوضى والتشرذم إلى حالة الاتساق والتنظيم، بما في ذلك تشكيل أحزاب على أسس لا عقائدية تركز على الإنسان كقيمة القيم، الإنسان – المواطن بحقوقه وواجباته، بعيدًا عن الشعارات والرموز، وتضع برامجها في خدمته. الإنسان السوري العادي لم يعد يحتمل تجارب تستخدمه كفرد في طابور ذي مسار واحد نحو هدف متوهَّم، فهو الهدف بحد ذاته، ومصلحته مندمجة مع مصلحة وطنه المأمول، كل منهما تفضي إلى الأخرى ولا مفاضلة بينهما.
في هذا المسعى، لا فائدة من تدوير المتسلقين مرة أخرى، الذين لا يمكن استخلاص شيء منهم غير الفشل، من أُعطوا الفرص وأهدروها، وأسبغوا على حياتنا المزيد من اليأس. هؤلاء طلاب سلطة في غفلة عن تاريخ الشعوب، وبيادق لخدمة أسيادهم من دول الجوار، وشركاء في إهدار كرامة وطن يدّعون العمل لأجله. فمن اعتاشوا على نفايات السياسات الطائفية والمواقف الغريزية والمستبدين من كل نوع لا مكان لهم في الحياة الجديدة المليئة بالطاقات المبدعة، والتي كانت المشكلة دومًا باستبعادها، فما يريده السوريون كوليد قابل للعيش قد اقترب.
كما أن مصاعب العيش وحدت السوريين وأنستهم معارضتهم وموالاتهم، وباتوا جاهزين هذه المرة للعمل من أجل حياة كريمة لا معنى لها بلا حرية. هذه هي المعادلة الجديدة القابلة للحياة، وهذا ما لا تفهمه “نخب” تكلّس تفكيرها على ثنائيات متصادمة، وانقسامات بدت بالنسبة لهم كقدر لا مفرّ منه. الاستبداد يعي ذلك أيضًا، ولم يعد يجد ما يستر عورته وراياته المهترئة، ونهايته أكيدة كأي استبداد.
منير شحود