[jnews_post_author ]
لا تزال كلمات الأستاذ الكبير Jacques Caillausse في دروسه منذ أكثر من عشرين عاماً حول دولة القانون تتردّد في مسمعي، و لاسيما كلماته وعباراته في محاضرة رائعة له لا أزال أحفظها عن ظهر قلب كانت بعنوان “Avoir l’autorité sans être autoritaire” “كيف تمارس أو تمتلك السلطة دون أن تصبح متسلطاً”.
في مقدمة تلك المحاضرة الرائعة بدأ Caillausse بعبارة أو مقولة يعتبرها أيقونة لقيام دولة القانون والمؤسسات البعيدة عن التسلط، هذه المقولة تتلخص في الترجمة الآتية: “في دولة القانون والمؤسسات حيث تمارس السلطة دون الوقوع في فخ أو متعة التسلط يجب على الحاكم ألا ينظر إلى نفسه بأنه ولدَ نظيفاً من عيون أمه وأن أفراد الشعب/المحكومين ولدوا كما يولد الناس، وبالمقابل على أفراد الشعب/المحكومين ألا ينظروا إلى الحاكم بأنه ولدَ نظيفاً من عيون أمه وأنهم كمحكومين ولدوا كما يولد الناس”، ويضيف: “كلما كان الحكام عاديين يشبهون المحكومين كلما ابتعدنا عن التسلط نحو السلطة المؤسساتية الشرط اللازم لقيام دولة القانون”، وللوصول إلى ذلك يستعير كايوس مقولة أفلاطون لابد من أن “يشعر كل فرد في المجتمع بأنه يمكن أن يجد نفسه يوماً حاكماً ويوماً آخر محكوماً”.
قد يتداخل الوقوع في التسلط Autoritarisme بممارسة السلطة Autorité بصورة كبيرة، بل يكاد في كثير من الأحيان لا يوجد فاصل بينهما سوى خيط رفيع.
وفي الحقيقة يمكن تبيان أربعة ممرات أساسية تحول ممارسة السلطة إلى نمط من التسلط. هذه الممرات ناجمة عن ربط ممارسة السلطة بأبعاد يقبلها المجتمع تحت شعارات مختلفة، وتفضي بشكل تلقائي إلى نوع من التسلط أو الاستبداد :
- السلطة البطريركية أو الأبوية : إن وضع الحاكم بالنسبة لشعبه بمقام الأب بالنسبة لعائلته، هي أحد أهم ممرات تحول السلطة إلى نوع من التسلط والاستبداد. فتحت قناع شعار الأب الرؤوف الحريص على العائلة/الشعب، وبأن كل ما يقوم به ويمارسه من قسوة وحرمان تجاه العائلة/الشعب هو في النهاية يصب في مصلحتها ومستقبلها، وهي أي العائلة/الشعب لا تدرك هذه المصلحة في اللحظة الراهنة. وفي هذا النمط من السلطة المفضية للتسلط، ليس على الشعب (أفرادا وجماعات) سوى النوم على فراش الخمول تاركاً للحاكم/الأب التفكير والتقرير نيابة عنه. كذلك فإنه في هذا النمط من السلطة المفضية للتسلط يشكل أي خروج على الحاكم/الأب إثما اجتماعيا ونوعا من العقوق للأب.
- شخصنة السلطة : إن تشخيص السلطة يتجسد في أن يحتل العنصر الشخصي محل العنصر المؤسساتي في إدارة دفة الحكم. هذا التشخيص للسلطة يتأتى من خلال الادعاء بأن المجتمع هو أشبه بالجسد الذي يحتل فيه الحاكم موقع الرأس، وبالتالي يكون مخولا بتوجيه كافة أعضائه لأنه يمثل العقل المفكر والمدبر لهذا الجسد الهامد (الشعب). وينجم عن هذا التشخيص للسلطة تغييب دور المؤسسات وتحويلها إلى واجهات شكلية عن طريق تدبير الدسائس والمكائد وضرب الناس بعضهم ببعض، بحيث يمسك الحاكم/العقل المفكر والمدبر لوحده بخيوط العملية السياسية. وتصبح عملية صنع واتخاذ القرارات حبيسة شبكة معقدة من العلاقات والمصالح الشخصية “المكولسة” (التي تدار في الكواليس) يسيرها الحاكم/العقل المفكر والمدبر كما يشاء.
- سلطة “المستبد العادل” : تحت شعارات ومبررات عديدة لاسيما منها مواجهة الاستعمار والخطر الخارجي، أو مواجهة الفقر والجهل والتخلف وضرورة تحقيق التنمية… تم طرح فكرة أو ضرورة نمط من أنماط السلطة في مرحلة ما تحت اسم “المستبد العادل”. ففي مرحلة التصدي للاستعمار والخطر الخارجي، وفي مرحلة مواجهة التخلف والفقر والسعي نحو التنمية لا بد من التضحية أو التخلي عن رفاهية الحرية وترف الديمقراطية حتى يتم تحقيق التحرير والاستقلال والتنمية…. بيد أن هذه التضحية المؤقتة بالحرية والديمقراطية استدامت بفعل مكر “المستبد العادل” الذي تفنن في اختراع أسباب بقائه تحت شعارات تبدأ بضرورة المحافظة على الكرامة الوطنية … ولا تنتهي بمواجهة الإمبريالية…
- السلطة الدينية : إن إدماج البعد الديني في السلطة أمر يثير عواطف وغرائز الناس، بحيث يقبلوا بالتسلط والاستبداد في ممارسة السلطة في الحياة الدنيا أملاً بالفوز بالنجاة في الحياة الآخرة. فطاعة الحاكم المعصوم/أمير المؤمنين واجب ديني ونوع من أنواع العبادة. وتحت عباءة الدين وقبول العباد/الشعب بالانقياد والخضوع للحاكم المعصوم، يمارس هذا الأخير ما يشاء من فنون التسلط الذي يقع على قلوب العباد/الشعب برداً وسلاماً.
إن ممرات التسلط بأنواعها الأربعة أدت -بين ما أدت إليه- إلى إماتة النفوس، وتحطيم الطموح، واستقالة العقل، والهروب من المسؤولية، والانسحاب من الحياة العامة…. إضافةً إلى ذلك أفضت إلى انحطاط الأخلاق وتهشيم قيم المجتمع، وإضعاف روح المواطنة لدى الفرد، وتدمير التماسك الاجتماعي. كذلك فإن ممرات التسلط المفضية للاستبداد جعلت الإنسان/المواطن حاقداً على بقية أفراد مجتمعه بحسبهم عوناً للمستبد عليه، وفاقداً حبه لوطنه لأنه غير آمن على استقراره فيه راغباً في الرحيل عنه، بل جعلته ضعيف التمسك بعائلته لأنه غير مطمئن على استدامة علاقته معها، وإلى اختلال الثقة بأصدقائه لأنه يعلم بأنهم قد يضطرون للإضرار به بل وحتى إلى قتله وهم باكون…..