ميديا – الناس نيوز ::
فوربس – لم يعد التعافي الصحي يُقاس بمجرد زوال الأعراض بل بقدرة الجسم على استعادة وحفظ توازنه على المدى الطويل.
ومع تزايد الأدلة العلمية التي تربط “الميكروبيوم” (Microbiome) بوظائف الجهاز المناعي والتمثيل الغذائي وصحة الدماغ، انتقلت صحة الأمعاء من كونها شأنًا غذائيًا ثانويًا لتصبح ركيزة محورية في فهم المناعة واستقرار الهرمونات.
من الفم وصولًا إلى الجهاز المناعي الذي يعمل بصفته منظومة مراقبة دقيقة، تبرز ضرورة إعادة تعريف الغذاء والعادات اليومية البسيطة باعتبارها أدوات استراتيجية للوقاية من الأمراض.
في هذا السياق، وخلال “قمة فوربس الشرق الأوسط للسياحة العلاجية والرفاهية الصحية” عُقدت جلسة حوارية جمعت رؤى متقاطعة بين العلم السريري والطب الوظيفي والتغذية التطبيقية، شارك فيها كل من ماري كريستين، خبيرة صحة الأمعاء الوظيفية ومؤسسة Be That Life، والدكتور بول عون، رئيس مركز الغدد الصماء والسكري واستشاري الغدد الصماء في المستشفى الأمريكي بدبي، وبرناديت أبراهام خبيرة الطب الوظيفي ومؤسسة B Better. وناقشوا رفع الوعي بالميكروبيوم واعتماد ممارسات عملية مثل تصميم الوجبات المتوازنة والالتزام بسلامة الغذاء وأدارت الحوار جانا مجذوب خبيرة التغذية ومؤسسة Behind My Meals.
ميكروبيوم الفم.. بداية منسية لصحة الأمعاء
إن الاهتمام المتزايد بصحة الأمعاء ليس مجرد موجة صحية عابرة، بل هو تحوّل عميق في فهم الصحة بوصفها منظومة مترابطة لا تعمل أجزاؤها بمعزل عن بعضها. ومع اتساع الحديث عن “الميكروبيوم المعوي” ودوره في التعافي والمناعة، تبرز أسئلة أكثر دقة حول الانطلاقة الفعلية لهذه المنظومة: أين تبدأ صحة الأمعاء حقًا؟
في هذا السياق، قدّمت ماري كريستين طرحًا لافتًا يوسّع زاوية النظر التقليدية، مستندة إلى خبرتها العملية في قطاع المكملات الغذائية وإدارة شركة متخصصة في تصميم الوجبات. وهذا التعامل اليومي مع أنماط غذائية متباينة، ومع أشخاص عالقين في دوامة الحميات المتناقضة وتضارب النصائح الصحية، يمنح فهمًا عمليًا للفجوة بين المعرفة النظرية والتطبيق الواقعي، خصوصًا في مجتمعات متعددة الثقافات مثل الإمارات حيث تتقاطع عادات غذائية مختلفة قد تربك مفهوم الغذاء الصحي.
لفتت كريستين الانتباه إلى ما وصفته بالحَلقة المفقودة في خطاب الصحة: الميكروبيوم الفموي. فبينما انصب التركيز لسنوات على محور “الأمعاء – الدماغ”، جرى تجاهل المرحلة الأولى في رحلة الطعام داخل الجسم. وهنا لا يُنظر إلى الفم بوصفه مجرد مدخل للهضم بل كنظام بيولوجي متكامل يؤثر في ما يليه. وتذهب كريستين أبعد من ذلك حين تشبّه الميكروبيوم الفموي (Oral Microbiome) بـ”نظام التشغيل” للجسم. حسب هذا التصور، أي خلل في النظام سواء بسبب الأطعمة فائقة المعالجة أو التعرّض المستمر للسموم أو الاستخدام اليومي لمحلولات الغسيل لا يبقى محصورًا في تجويف الفم، بل ينتقل تدريجيًا ليؤثر في كفاءة الجهاز الهضمي، ويُربك توازن الأمعاء، ويمتد أثره إلى الجهاز اللمفاوي ومسارات الالتهاب في الجسم.
وهذا الطرح يقود إلى إعادة ترتيب الأولويات في صحة الأمعاء، بدل البدء بالمكملات أو البروتوكولات المعقدة، تصبح “حراسة الفم” خطوة تأسيسية لأي تعافٍ مستدام. ويشمل ذلك تبني نظام غذائي مضاد للالتهابات، والحد من الأطعمة المصنعة، وتجنب تخزين الطعام في البلاستيك، إضافة إلى مراجعة العناية بالفم واستبعاد المنتجات المعتمدة على الكحول. في المحصلة، قُدّم إطار مفاهيمي يربط بين التفاصيل اليومية الصغيرة والصورة الصحية الكبرى، لأن سلامة الأمعاء لا تبدأ في العمق بل عند البوابة الأولى. والوعي بصحة الفم ليس تفصيلاً ثانويًا، بل نقطة انطلاق لأي خطة تهدف إلى التعافي، وبناء صحة طويلة الأمد قائمة على الفهم لا على التلقين.
التوازن الهرموني يبدأ من الداخل
مع مداخلة د. بول عون، انتقل النقاش من التوعية العامة إلى مساحة طبية أكثر دقة، مع تعريف صحة الأمعاء باعتبارها مسألة سريرية صِرفة، لا مجال لوضعها في خانة الطب التكميلي أو الاتجاهات الصحية الرائجة. هذا الطرح جاء متسقًا مع منطق علم الغدد الصماء القائم على الأدلة والذي يضع الميكروبيوم في قلب معادلات الهرمونات والتمثيل الغذائي الذي يحكم توازن الجسم.
من الضروري النظر إلى الجسم بوصفه كيانًا سياديًا يواجه تهديدات مستمرة من الخارج، وأي منظومة دفاعية فعالة لا تُبنى في العمق، بل تبدأ عند الحدود. وحسب رؤية د. عون تلك الحدود هي الأمعاء التي تتفاعل بشكل مباشر ويومي مع العالم الخارجي عبر الطعام والشراب، ولا يمكن اختزال دورها في الهضم فقط لأنها تمثل نقطة الفرز الأولى وموقع اتخاذ القرار المناعي والهرموني في آن واحد.
عند تفكيك هذا الطرح علميًا، تتضح الصورة بشكل أكثر عمقًا. الأمعاء ليست مجرد أنبوب حيوي بل مركزًا تنسيقيًا معقّدًا تحتضن 70% من خلايا الجهاز المناعي، وتشارك في إنتاج 90% من السيروتونين أحد أهم النواقل العصبية المنظمة للمزاج والنوم والشهية. ويربط د. عون بين هذه الوظائف عبر العصب المبهم (Vagus Nerve) الذي وصفه بالطريق السريع لنقل الإشارات بين الأمعاء والدماغ، ما يجعل أي خلل معوي قابلًا للترجمة إلى اضطراب هرموني، أو تراجع في مرونة التمثيل الغذائي (Metabolism) أو اختلال في الصحة النفسية.
مقولة أبقراط الشهيرة بأن “جميع الأمراض تبدأ من الأمعاء” لم تكن حدسًا فلسفيًا بقدر ما كانت قراءة مبكرة لفسيولوجيا لم تتوافر أدوات فهمها آنذاك. اليوم، تعود هذه الفكرة إلى الواجهة مدعومة ببيانات بحثية دقيقة، تضع الألياف الغذائية في موقع محوري إذ تتحول إلى أحماض دهنية وتؤدي دورًا تنظيميًا في ضبط الالتهاب، ودعم المناعة، وتحسين حساسية الأنسولين وتنظيم الهرمونات.
ويستند د.عون في طرحه إلى دراسات حديثة، منها أبحاث صادرة عن جامعة ستانفورد، تُظهر أن القيمة الصحية الحقيقية لا تكمن في كمية البكتيريا النافعة، بل في تنوعها وهو ما تعززه الأغذية المخمرة وما يمنح الميكروبيوم قدرته على التكيف، ويعزز مرونة الجسم في مواجهة ضغوط الأيض والالتهاب.
من الضروري تجاوز الخطاب الذي يركّز على مكمل واحد أو نوع بكتيريا بعينه، إلى تبني نظرة شمولية للميكروبيوم تشمل البريبايوتكس بوصفها الوقود، والبروبيوتكس بوصفها الكائنات الحية الفاعلة، والبوستبايوتكس بوصفها النواتج الأيضية التي تُحدث التأثير الفعلي داخل الجسم.
وبهذا الإطار المتكامل، تترسّخ قناعة مفادها أن التوازن الهرموني والمرونة الأيضية ليسا مسارين منفصلين بل نتيجتين مباشرتين لبيئة سليمة، تجعل صحة الأمعاء أساسًا لأي استراتيجية طبية تستهدف التعافي المستدام.

الميكروبيوم منظّم أساسي للمناعة
إن فهم صحة الجهاز المناعي أو التعامل معها علاجيًا في الطب الحديث لا يمكن أن يتم بمعزل عن الميكروبيوم، وهذا الترابط حتمية علمية تنطلق منها العديد من الممارسات السريرية. وباستقراء الواقع العملي الذي طرحته برناديت أبراهام، يتضح أن معظم المفاهيم الصحية المعاصرة تلتقي عند حقيقة واحدة، وهي أن الخلل المناعي يتقاطع مع اضطرابات عميقة في توازن الميكروبيوم، ما يجعل استقرار البيئة المعوية المحرك الأول والأساسي لضبط الاستجابات الدفاعية للجسم وضمان فاعلية أي مسار علاجي.
ويستضيف جسم الإنسان تريليونات الكائنات الدقيقة التي تعيش على الجلد وفروة الرأس وفي الفم وفي تجاويف وأنسجة متعددة، إلا أن الكتلة الأكبر منها تتركز في الأمعاء الغليظة، موطن الميكروبيوم المعوي.
وتكمن أهمية هذا التمركز في أن 70% من الجهاز المناعي يتموضع في بطانة الأمعاء وحولها، ما يعكس تصميمًا بيولوجيًا دقيقًا يجعل الأمعاء نقطة مراقبة بين العالم الخارجي وداخل الجسم.
ولتوضيح هذه العلاقة، شبّهت برناديت أبراهام الجهاز المناعي بفريق مراقبة، في حين يعمل الميكروبيوم كشبكة كاميرات أمنية ترصد كل ما يدخل إلى الجسم من البيئة الخارجية. ولا يقتصر هذا الدور على المراقبة فقط بل يمتد إلى إرسال إشارات مستمرة إلى الخلايا المناعية التي تعتمد على هذه المعلومات لتنظيم استجابتها. وبيّنت أن التواصل الدائم بين الخلايا الميكروبية والخلايا المناعية هو العامل الحاسم في تحديد ما إذا كانت الاستجابة المناعية ستكون متوازنة أو مختلة.
على المستوى العملي، حدّدت برناديت ثلاث ركائز أساسية لاستعادة التوازن المناعي عبر دعم الميكروبيوم، الأولى تتمثل في إزالة العوامل الضارة وفي مقدمتها الأنظمة الغذائية الغنية بالسكر والدقيق والكحول والأنظمة منخفضة الألياف. كما أشارت إلى تأثير نمط الحياة مثل التوتر المزمن وقلة النوم، والإفراط في استخدام الأدوية. وتتمثل الركيزة الثانية في تهيئة بيئة داعمة لإعادة بناء الميكروبيوم، عبر النظام الغذائي إذ تتغذى البكتيريا على الألياف والأحماض الأمينية والدهون، لتنتج في المقابل مركبات تفيد الجسم. وتتعلق الركيزة الثالثة بدعم العناصر الضرورية لوظائف المناعة، وذكرت على وجه الخصوص فيتامين D والزنك وفيتامين A، موضحة أن المستويات غير المثالية دون الوصول إلى مرحلة النقص الحاد، قد تؤثر سلبًا في كفاءة الجهاز المناعي وقدرته على الاستجابة.
تكامل العلم والتطبيق في صحة الأمعاء
تتجاوز صحة الأمعاء كونها مجرد “توجه صحي عابر” إلى كونها ركيزة لا غنى عنها في بنية الصحة الشاملة، والتقاء منظور العافية الوظيفية بالطب السريري والهرموني يبرهن على أن الأمعاء هي المحور الذي تدور حوله المناعة والقدرة على التعافي. وقد لا تتطلب العافية المستدامة إجراءات معقدة بالضرورة بل تبدأ من الوعي بتفاصيل يومية وبديهية، مثل تصميم الوجبات وسلامة الغذاء، وتقليل التعرض للسموم الخفية التي تتربص بالجسم.
لقد لخصت الجلسة ثنائية “العلم والتطبيق”، فالعلم يتجسد في الأبحاث المعمقة حول الميكروبيوم والمناعة التي استعرضها الخبراء، أما التطبيق فهو مسؤولية الفرد في تحويل تلك البيانات إلى سلوك غذائي واعٍ وعادات تعزز جودة الحياة. إن الاستثمار في صحة الأمعاء استثمار مباشر في المستقبل، إذ لم يعد الوعي بالعلاقة بين ما نأكله وبين التوازن الهرموني والعصبي نوعًا من الرفاهية المعرفية بل ضرورة حتمية للوقاية والتعافي طويل الأمد.

الأكثر شعبية


من التعافي إلى العافية.. العادات اليومية أساس صحة طويلة الأمد..

السلطات الإسرائيلية: مقتل شخصين في هجوم شنه فلسطيني!

