[jnews_post_author ]
تأسيساً على فكرة “العقد الاجتماعي” أضحى من المسلم به لدى الفقه الدستوري والنظم السياسية القول بوجود رابطة وثيقة بين المجتمع والدولة. فالمجتمع لا يقوم خارج نطاق العلاقة مع الدولة، باعتبار أن أساس المجتمع يقوم على “العملية السياسية”، وأصول “العملية السياسية” تكمن في الدولة.
إن دينامية أي مجتمع تقوم على آليات الفعل والتفاعل فيه لمعالجة مشكلاته وتعزيز قدراته وتحقيق رفاهه. وهذه الآليات النابعة من محددات المجتمع تحتاج إلى الدولة كناظم لها. لكن أي نوع من الدولة التي يمكن أن تساهم بأدواتها التنظيمية في إطلاق طاقات المجتمع المادية والفكرية، وتسمح له بالحركة والإنجاز والتنمية؟
لا نقاش لدى الفقه الدستوري والأنظمة السياسية على أن “لا دولة بدون سلطة” وأن “لا سلطة بدون إكراه”، حيث إن الإكراه بشقيه القانوني والمادي هو سمة ضرورية للسلطة في للدولة.
لكن ممارسة هذا الإكراه هو محور التمييز بين نظام ديمقراطي ونظام استبدادي في الدولة. فالدولة تجسد السلطة (سمة القوة وأداة الإكراه) التي تتولى إصدار التشريعات والأوامر وتفرض الإلزام والطاعة، ولكن بحسبان أن السلطة (كقوة إكراه) تهدف إلى ضمان وحدة المجتمع الوطنية والسياسية، والدفاع عنه ضد المخاطر الداخلية والخارجية.
إن الإكراه كأداة للسلطة في الدولة يتحدد بالقدر اللازم لحماية المجتمع وتحقيق طموحاته، دون أن ينزلق إلى حدود المغالاة فيؤدي إلى الاستبداد الذي يفترس المجتمع ويهدم الدولة.
فالتنامي السرطاني وغير المبرر لأدوات الإكراه يحول وظيفة السلطة من وسيلة لحماية المجتمع واستقراره وضمان بقاء الدولة، إلى أداة لترويع المجتمع والإسهام في تفكك الدولة. وهنا يصبح الخوف والعنف أساسا لقيام السلطة عوضاً عن الرضا والشرعية. وفي هذه الحالة تضعف “العملية السياسية” بل تضمحل ولا يبقى منها سوى المراسم الشكلية من مظاهر السلطان اللازمة لفرض الهيبة التي تتحول إلى تقديس وخوف، عوضاً من أن تكون تجسيداً لعظمة الدولة وتطور المجتمع. وبالطبع لا مكان في ظل إضعاف “العملية السياسية” للمساءلة أو المحاسبة أو المشاركة أو مجرد المطالبة…، فالمجال مفتوح فقط لالتماس الرضا أو البركة أو تجنب الظلم أو الحصول على بعض نعم السلطان… ففي هذا الواقع يذعن الناس للسلطة، حيث يضحون مجبولين على الخضوع.
وفي هذا المناخ يقع المجتمع والدولة في قبضة السلطة التي تتجسد في هيكل قانوني بيروقراطي بغطاء “ديمقراطي” يتسم بظاهرتين أساسيتين :
• عدم انسجام مؤسسات السلطة وعدم توافقها حول وضع وتنفيذ السياسات العامة.
• تنامي واتساع دور الجهاز الأمني بحيث يصبح له اليد العليا في إدارة الدولة.
إننا هنا لا يمكن القول بأننا في إطار من الدولة، وإنما –كما يقول العديد من المفكرين- لا نزال في إطار نحو “مشروع دولة” لم يصل بعد إلى مرحلة النضوج والاكتمال تنظيمياً ومؤسساتياً، حيث لم يتم العمل على إرساء مقومات بناء “دولة” من مجالس وتنظيمات حاملة للمجتمع، وإنما جرى العمل على تأسيس “سلطة”. وبالتالي أصبح هناك نوع من التماهي يصل إلى حد التطابق بين “النظام السياسي الحاكم” وبين “الدولة”.
الأصل في الدولة أن تكون مؤسسة محايدة كرابطة مدنية للمجتمع، تحترم استقلالية الفرد الحرّ المتساوي القادر على تسيير أموره وتحقيق أهدافه ومصالحه. والأصل أيضاً أن يقوم نظام الحكم في الدولة بدور الحكم النزيه غير المنحاز برعايته لعموم الأفراد (المواطنون المتساوون) في سعيهم نحو تحقيق أهدافهم ومصالحهم، بحيث يتحدد ويتركز دور الدولة في عمليات التنظيم والتنسيق والتقنين.
وهذا الأمر يتطلب من الدولة ترسيخ التعددية السياسية وتوسيع وتعزيز مساحة الحريات والحقوق السياسية، وحماية دور المجتمع المدني خارج نطاق السياسة. أي قيام الحكم على أساس مؤسسات مجتمعية معبرة عن الناس تعبيراً سلمياً وصحيحاً في ظل شبكة من العلاقات المؤسسة على الضبط والتنظيم والمساءلة بواسطة الناس وبما يستهدف المصلحة العامة. وهنا يستمد الحكم أسباب سلطته من رضا وقبول الناس، وخضوعهم الطوعي لأدوات الإكراه القانوني والمادي.
وفي هذا المناخ، كل الناس من حقهم أن يعيشوا عيشاً كريماً (مادياً ومعنوياً، نفساً وجسداً وروحاً)، كل إنسان يتمتع بحريته وكرامته الإنسانية مثله مثل غيره من البشر، لمجرد كونه بشرا.
وهنا يتعاظم دور “العملية السياسية” التي تتطلب إعداد وإنضاج المجتمع والمؤسسات اللازمة للتحول الديمقراطي، الطريق الوحيد للانتقال من “السلطة” إلى “الدولة”.