ميديا – الناس نيوز ::
المدن – مها غزال – لطالما آمن الغرب، وخصوصاً في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، بأن التغيير السياسي والديمقراطي في الدول “الخارجة عن النسق”، يمكن تحقيقه عبر أدوات الضغط: العقوبات الاقتصادية، العزل السياسي وتجميد الموارد.
هذه الأدوات، وإن بدت قانونية وسلمية، غالباً ما تتحول إلى وسيلة عقاب جماعي تطاول الشعوب لا الأنظمة، وتنتج مجتمعات أكثر فقراً، وأكثر عرضة للتطرف والانهيار الأخلاقي.
فالفقر لا يولد الحرية، بل يولد الغضب والانغلاق والكراهية، لأن المجتمعات التي تغيب عنها العدالة وفرص العمل، لا تجد في الديمقراطية خلاصاً، بل تراها رفاهية مستحيلة أو مؤامرة مشبوهة. مقابل ذلك، فإن التنمية الاقتصادية قادرة على خلق شرط موضوعي وداخلي للتغيير السياسي. فهي تُغري الأنظمة بالانخراط، وتُحفّز الطبقات الوسطى على طلب الحريات، وتفرض مناخاً من القانون والاستقرار كضرورة لحماية الاستثمار، لا كتنازل أيديولوجي.
هكذا، يصبح الانتقال إلى الديمقراطية نتيجة طبيعية لحاجة السوق، وحماية لرأس المال، وأداة عقلانية لتنظيم الصراع، لا شعاراً مستورداً.
في هذا السياق، تبدو الحالة السورية مثالاً فاقعاً على فشل هذا النموذج العقابي. منذ أكثر من عقد، تُدار الأزمة السورية عبر الأدوات ذاتها: بيانات تنديد، قوائم عقوبات، شروط سياسية مؤجلة، ولا شيء يتغير سوى ازدياد الفقر وتفكك الدولة وتحوّل المجتمع إلى حطام نفسي ومادي.
في خضم هذا الانهيار، صرّحت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، مؤخراً بأن “العقوبات على سوريا ستبقى بسبب عدم تجاوب الحكومة الجديدة” مع شروط أوروبا وأميركا. لكن ما معنى “العقوبات” حين يفرضها العالم على دولة بلا اقتصاد؟ وعلى شعب بلا موارد ولا مؤسسات؟ ما معنى السياسة إن لم تكن قادرة على تعديل أدواتها، وقياس نتائجها، والاعتراف بأخطائها؟

العقوبات لا تعاقب القيادة الحالية، بل تعمّق معاناة الشعب، وتغلق الأبواب أمام المبادرات المحلية، وتضعف أي فاعلين خارج دوائر الولاء. أما التنمية المشروطة، فكان يمكن أن تكون بديلاً عقلانياً: برامج إعادة إعمار تدريجية، مشاريع صغيرة تموّلها مؤسسات دولية مقابل حوكمة محلية، تعليم ومياه وبنية تحتية تُربط بإصلاحات شفافة. أي أن يُستخدم الاقتصاد بوصفه أداة تغيير لا أداة قمع.
إن إصرار الغرب على نهج العقوبات يشي بعجز فكري لا سياسي فحسب. هو تعبير عن تمسّك أخلاقي عقيم بفكرة العقاب، بدلاً من التفكير العملي بممكنات التغيير. المشكلة هنا ليست في الأداة فقط، بل في الفلسفة التي تبرّرها: فلسفة ترى في الردع غاية، وفي العزلة سياسة، وفي الجوع وسيلة ضغط.
لكن السياسة الناجعة تُبنى على التفاوض، وعلى خلق مصالح متبادلة، لا على تصدير الشروط من دون رافعة واقعية. وحتى من زاوية براغماتية، فإن الاستثمار في سوريا، ولو كان محدوداً في هذه الأوقات المفصلية، يخلق قوى اجتماعية جديدة، ويعيد تركيب المجال العام، ويحوّل الدولة إلى طرف قابل للتفاوض.
فالحرية، في النهاية، حاجة اقتصادية، والديمقراطية آلية لتنظيم المصالح، وليست عقيدة أخلاقية. وكل نظام سياسي لا يضمن العدالة القانونية والاستقرار الأمني لن يستطيع جذب الاستثمارات أو تحقيق النمو. وهكذا، تُصبح الحريات شرطاً للسوق، لا مجرد ترف ليبرالي.
لم تُنتج العقوبات في سوريا أي تحول سياسي حقيقي، بل ساهمت في تثبيت الوقائع على الأرض، وتعزيز اقتصاد الظل، وتهجير ملايين البشر. ولم تُنتج أدوات “الضغط” سوى هشاشة جماعية وفقدان للأمل. أما التنمية – ولو كانت مشروطة ومتدرجة – فبإمكانها أن تفتح فجوات في الجدار، وتُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع.
ما تحتاجه أوروبا اليوم ليس تصعيد العقوبات، بل شجاعة فلسفية تعترف أن التغيير السياسي لا يُفرض من الخارج، بل يُزرع من الداخل، ويُروى بالفرص، لا بالحرمان. وأن الديمقراطية، حين تُبنى على أساس اقتصادي واجتماعي متين، تصبح خياراً ذاتياً لا تنازلاً مفروضاً.
المطلوب ليس رفع العقوبات فقط، بل مراجعة فلسفتها والمراهنة على المجتمع. المطلوب ليس تجاهل العدالة، بل بناء شروط تجعلها ممكنة. تلك هي السياسة التي تستحق أن تُمارس، وتلك هي الأخلاق التي تستحق أن تُكتب باسم الإنسانية.



الأكثر شعبية



اميركا تخلي 3 قواعد عسكرية من أصل 8 لها في سوريا…
