علي صفر – الناس نيوز ::
الطريق الذي يأخذني من فرشتي إلى ورشتي، ومن ورشتي لفرشتي…
تلك الفرشة والتي تلتحم مع البلاط الموزاييك في غرفتي بحي دمشقي شعبي، ولها نافذة تطل على الشارع، والبعيدة عن مكان عملي (تلبيس الشبابيك بالمشربيات) .
كانت كل يوم وقبل استيقاظي تمر من أمام نافذتي المغطاة ببراديه من كيس الطحين، مثل الكيس الذي كانت أمي تخيطه سروالاً داخلياً لي . وكلما تمر من أمام نافذتي، أشعر بأن ظل أمي قد مرّمن أمامي ..
أعرفها من خلال ظلها على البرداية، ومن خلال، طرقات كعب كندرتها وتلك الخطوات حفظتها كما حفظ الإسفلت ظل خطواتها.
تعودت على مرورها وعلى رائحة عطرها الأقرب للعطر الذي يُرَشُّ على جثث الموتى لكي تخفي رائحتهم.
كانت تطرق باب نافذتي كل يوم وبنفس التوقيت، أي قبل ذهابها لعملها القريب من مكان سكني.
اعتذرت مني لظنها أن قريبها الذي كان يسكن الغرفة قبلي لم يغادرها.
شربنا القهوة
وفي اليوم التالي جاءتني باكراً، فشربنا المته ومن ثم القهوة كعادة أهالي الساحل.
وبعادة جديدة منها، كانت تطرق بابي بعد خروجها من الدوام ونتغدى سوية (شظ مظ) الأكلة الأسهل تحضيراً بمكوناتها البسيطة من البيض والبندورة.
وتعودنا على بعض، لدرجة أنها كانت تأتي بكومة غسيل بحجة أن غسالتها معطلة
وتعودنا أكثر أن تأتي بمواد الطبخ.
وفي كل مساء تختفي، لتتركني وحيداً بفراشي بعد حمام وزوال غبار جلخ الحجارة من على كامل جسدي.
وفي اليوم الذي يليه تستعير كاسة متة وغلوة قهوة وغاز السفاري بحجة أنها مقطوعة من الغاز.
وتعودت الاستيقاظ على مرور وقع غبشها من خلال ظل البرداية.
في أحد الأيام زارني زميلي الدمشقي واستبدل برداية أمي ببرداية أمه القديمة، والتي لها ثلاثة حركات، الأولى قماش شفاف والثانية قماش أقل نوراً والثالثة أكثر تعتيماً. عندها بقيت ساعات أتدرب على إغلاق وفتح تلك البرداية أم ثلاث حركات.
أذكر جيداً يومها.. لم أنم وكل حواسي تسترقّ صوت كعب كندرتها.
استيقظت باكراً على غير عادتي وحاولت فتح البرداية أم ثلاث حركات من دون جدوى. نزعت الأسياخ الثلاثة فسمعت خطواتها على بعد اشتياق ولهفة. ومن دون صباح الخير قالت: سخن إبريق المتة، بلحق اشرب معك كم كاسة قبل ما روح الدوام.
وبيدين من نار ولهفة ومتة شربنا أول ضرب.
وقبل أن تقطع كاستها للمتة ويبان عيدانها الجافة تركتني وهي تركض خلف عقارب دوامها.
ومن فرشتي لورشتي وبّخني صاحب العمل لتأخري المتكرر وهروبي من العمل باكراً.
برّرت له قائلاً إن السرافيس محشوة ولم أجد مكاناً لي، ومن أن الأسياخ الثلاثية الحركة أخذت من وقتي وأن عطرها أصبح ينعش الميت، فـ … نصحني صاحب العمل بزيارة طبيب نفساني.
ومع اختفاء برداية أمي وبرداية زميلي الدمشقي الثلاثية الأسياخ والحركات، وفتح درفة من شباك غرفتي الخشبية سمعت صوتاٍ أقرب لصوت شحاطة البلاستيك.
ياااه … إنها تنتعل شحاطة وليس كندرتها التي تعودتُ على إيقاعها … عرفت ذلك من سعالها الحاد والذي ينتهي وقبل وصولها نافذتي.
انتبهت أنني انتبهت.
ابتسمت وهمست لي من النافذة: لم أستطع لبس كندرتي الضيقة لأصل إليك وكي لا أتأخر لبست قدماي شحاطة البلاستيك الأقرب إليك. وشربنا القهوة بدلاً من المتة بحجة أنها ستكون بالدوام قبل زملائها، لأنها في اليوم السابق تأخرت بسببي والمتة.
كنت تعودت على صباحها والذي أصبح مشرقاً أكثر بحضورها.
وقبل المغيب كانت تترك كل شيء وتهرول إلى بيتها.
إلى أن جاءت في إحدى الليالي ومعها ثلاثة أطفال، وهي تبكي وتقرص أطفاها الثلاثة لتحريضهم على البكاء أكثر وأكثر. فبكوا وبكت هي وبكيت أنا من دون قرصها لي.
أخبرتني أن صاحب غرفتها طردها من البيت لرفضها محاولته التحرش بها بعد أن عرف أن زوجها متوفى ومقطوعة من شجرة.
تساءلتُ من أين عرف صاحب غرفتها أنها أرملة
أما أنا، الآن فقط عرفت أن لها ثلاثة أطفال.
فيما بعد ونتيجة انتظاري لأولادها، حتى تنتهي من دوامها، عشت بقية حياتي بعيداً عن غرفتي
ومن ورشتي لورشتي.